وفاة الدكتور امراجع
منتديات الرياينه - الجبل الغربي - ليبيا تستقبلكم بكل مودة فمرحبا بكم :: **المنتــــــــــــديات الادبية :: **** منتدى القصص والروايات
صفحة 1 من اصل 1
وفاة الدكتور امراجع
[center]قصة قراتها في موقع اخبار ليبيا منذ زمن واعدت قراتها اكثر من مرة لانني شعرت انها جزء من الحقيقة التي غض الكثير الطرف عنها ولم يعرها التفاتا ومن خلال قراتى لهذه القصة عشت احداثها وكم المني ما جاء فيها فقد رسمت في خيالي زمن حدوثها وشخوصها والاماكن التي كانت مسرح لوقوعها فعشت مع ابطالها كل الاحداث خطوة خطوة وتالمت لالامهم وحزنت لذلك الانسان الذي كان يطمح ان يكون شئ في وطنه فتحول الي اللاشئ كان يود ان يبني وطنه فدمر باسم الوطن والوطنيه وهي من ذلك براء
اترككم مع احداثها
وفاة الدكتور امراجع
جديد جرحنا مازال.. على ما بكينا ما برا
- اتكأ التاريخ على جذع شجرة زيتون.. حدق باتجاه عجوز ليبي وسأله: كيف حالك يا ليبي؟ نظر الليبي في عيون التاريخ بأسى وفي حزن. طأطأ رأسه في ذل وأخذ يفكر.. ويفكر.. ويفكر. مسح حبات عرق بللت جبينه الأسمر الذي لوحته الشمس.
ترقرقت في عيناه دمعتان واستوطنت الغصة حلقه. حك العجوز الليبي مؤخرة رأسه في حيرة عفوية وأجرى تعديلا طفيفا على موقع غطاء رأسه. حاول الاجابة على السؤال الذي وجهه له التاريخ لكنه لم يستطع. عصر الألم قلبه. ارتفعت كتفاه قليلا.. حرّك يداه ببطء وبحزن في الهواء في محاولة يائسة للتعبير عما يدور بفكره وعجز لسانه عن الافصاح به. ارتعشت شفتاه وبللت الدموع مسارب الحزن في وجهه.
هز التاريخ رأسه في أسى وتفهم، وواصل رحلته قائلا: أعرف.. أعرف.
ولايزال العجوز الليبي يبحث عن اجابة. لا أقصد الاجابة على سؤال " كيف حالك يا ليبي؟" الذي سأله التاريخ، بل الاجابة على سؤال آخر كان يدور داخل جمجمة ذاك العجوز الليبي وهو: هل من الممكن أن ينسى التاريخ "كيف حال الليبيين"؟
الملازم: يا حيوان اتجاوب على سؤالي لمّا نؤمرك بالاجابة بس.. فهمت يا خرقة والا لا؟
امراجع: نعم سيدي
ويصفع الملازم خد امراجع الأيسر بكل مل اوتيت يمينه من قوة.
الملازم: يا حثالة أنا سألتك فهمت والا لا، ولكن ما طلبتش منك جواب.. ليش اتجاوب يا بهيم؟
امراجع: ......
الملازم: من أمك؟
امراجع: ......
الملازم: سألتك عن اسم امك يا حيوان! جاوبني
امراجع: أمي اسمها الثورة سيدي
الملازم: واسم بوك؟ بسرعة!
امراجع: بوي اسمه
وصفع الملازم امراجع عدة مرات حتى كاد كيس القماش الاسود الذي يغطي رأس السجين امراجع أن يطير من فوق رأسه.
الملازم: يا بهيم تجاوبني لمّا أنا نؤمرك بالاجابة بس.. يللا جاوب
امراجع: حاضر حاضر سيدي.. سامحني سيدي
الملازم: شني اسم بوك يا زمال؟ هيا جاوب.. اقذف ما تخافش
امراجع: بوي اسمه الفاتح سيدي
الملازم: الفاتح هو الثورة والثورة هي الفاتح.. يعني بوك هو امك وامك هي بوك وانت انجازهم. المجتمع كله هو الثورة والثورة هي المجتمع.. ولمّا انفذوا تعليمات قايد ثورتنا ونمشو على نهج الفقه الثوري الصحيح معناها اننا في مجتمعنا الجماهيري الثوري المسلم والمنظم ومش في حاجة لزندقة حثالة المجتمع اللي زيك. صح يا كناسه والا غلط؟ جاوبني!
امراجع: مزبوط سيدي
صفعة على الخد الأيمن تبعتها اخرى على الأيسر.
الملازم: لا مزبوط ولا مربوط يا حمار.. سألتك ان كان كلامي صح او غلط مش أكثر ولا أقل يا جاهل. جاوبني.
نوبة سعال حادة هاجمت امراجع تمكن السجين بعد مصارعتها من الاجابة..
امراجع: كلامك صح سيدي
الملازم: يا خرقة توا انت اعتبر روحك محظوظ لأنك أصبحت مواطن صالح ومن الممكن ان يستفيد منك المجتمع.. طبعا بعد ما تم تنظيفك من الوسخ اللي في مخك.. وبشرط ان تبعد عن شلة الجوامع وشيوخ الزندقة اللي قاعدين يبيعولك في اسلام معلب من عصر الجاهلية. احنا هنا في مجتمعنا الجماهيري السعيد مجتمع متماسك ومسلم وسعيد ونظيف وحضاري وبفضل القايد لقينا الحلول الجذرية لكافة المشاكل.. مش غير مشاكل ليبيا وبس، لا لا.. عندنا حلول جذرية لمشاكل الدنيا كلها.. الله يفتح على قايدنا وينوّره انشاء الله.. انت بدل ما تقرا الكتب الصفرا المفروض تقرا الكتاب الاخضر والأبيض والنظرية العالمية الثالثة والوثيقة الكبرى لحقوق الانسان، يا جاهل بيش تستفيد وممكن تفيد. نتمنى اني مانشوفش خلقتك مرة ثانية، والا بالله العظيم اذا اتطيح في ايدي مرة ثانية يا كلب مانك طالع من الضويفه، الا وانت تزحف زحف.. هذا اذا كان طلعت منها. توا انت في عز شبابك مازال وصحتك تقدر تعافر بيها ثور يا بقرة وتخصصك في جراحة مش عارف شني، ومتخرج من جامعة اوروبية وهذا تخصص باهي ومطلوب وتحتاجه بلادك وناسك و...
امراجع: تخصصي في جراحة الاعصاب سيدي
وساعدت الكف اليمنى للملازم أختها الكف اليسرى في صفع ولطم رأس امراجع المبلل بالعرق البارد ودموع امراجع الصامتة.
الملازم: ما تقاطعنيش بنباحك يا كلب! جراحة أعصاب او جراحة بواسير كله عندي بلح وأنا ما طلبتش منك تفتح فمك المسّخ يا وسخ.. توا أنت جرّاح أعصاب؟! انت مؤهل لحرق الاعصاب مش لجراحتها يا كلب.. حق والا لا؟ جاوبني يا جاهل!
امراجع: كلامك حق سيدي
بلل الملازم منديلا صغيرا بالماء ومسح به قطرات عرق غزت هضبة جبهته العريضة.. عنقه وأنفه المفطوس كذلك. أشعل سيجارة وقام يذرع الغرفة جيئة وذهابا في بطء مقصود، ومتعمدا أن يرتطم كعب حذائه بأرضية الغرفة بقوة في كل خطوة يخطوها. تلك هي الطريقة النازية وهكذا كان يفعل تلاميذ مدرسة هاينكر في ألمانيا الشرقية ورفاق تشاوشيسكو في رومانيا أيام غطرستهم البشعة.
الملازم: آه شني شعورك توّا يا دكتور تسليك المجاري البولية؟
امراجع: ......
الملازم: جاوب جاوب ما تخافش
امراجع: ما فهمتش سؤالك سيدي
وعادت نوبة السعال الحاد لتهاجم صدر ورئتي امراجع. لم يشفق الجلاّد لحال امراجع، ولم يأمر بازالة الكيس الاسود، الذي يغطي رأس السجين.
الملازم: وداير روحك قاري ودكتور وجرّاح متعلم وحتى متدين وانت اجهل من كندرتك.. بالعربي الفصيح يا امراجع، ما هو شعورك الآن يا ابن سينا؟ أجبني يا هذا!
امراجع: شعوري كيف ما تبيه سيدي.
الملازم: باهي.. لو طلبنا منك اتقول لنا عن الشئ اللي تتمناه واللي نيتك فيه توّا.. شني هو هالشئ هذا او شني هي الحاجة اللي تبيها وتتمناها في هالدقيقة؟ جاوب.
امراجع: سيقارو يا افندي.
الملازم: سيقارو؟ لا لا ما تقللش من مقامنا ومستوانا عاد.. رانا مش أغبياء يا دكتور. سيقارو معناها تحويلة المخلة اللي على راسك بيش اتشوفني وانشوفك، وانا بصراحة ما عنديش رغبة ولا نية انشوف خلقيتك.. وبعدين انت دكتور ومتعلم وتعرف ان التدخين مضر بالصحة، وخاصة مع كحاحة الصراديك اللي عندك.. صحتك عندنا يا دكتور بيه هي الكل في الكل. جماعتك في العنبر قالوا انك شاعر وتحب غناوي الكشك والفشك والعلم.. ترا يا سي الدكتور سمّعنا قصيدة والا تلحيمة علم تمشي مع هالموقف الاسود اللي زي وجهك.. جاوب يا عنتر بن شداد.
امراجع: ما يخطر علي بالي شئ توّا سيدي.
الملازم: معناها يا سي الدكتور احنا مش قد المقام وما قدرناش نوفرولك الجو الرومانسي والشاعري المناسب.. يعني ظلمناك.. ما عرفناش قيمتك.. غلطنا في حقك.. صح والا غلط يا دكتوووووور.. جاوب يا بهيم!
امراجع: سطير جراحنا مازال.. ما جيت يا مداوي عالوجع
الملازم: ويا علم ياعزيز! سيدي يا سيدي على أشعار الدكتور الجرّاح.. بالله عليك ما تتحشمش على وجهك يا بدوّي؟ داير روحك دكتور جراحة وقاعد تألف في هالكلام الفارغ.. جاوب يا سيادة الدكتور الطهّار.
امراجع: الكلام اللي قلته يا ريته من تأليفي سيدي.. وهالكلام ليه مضمون ومعني و....
صفعتان رافقتهما بصقة...
الملازم: اتفوه عليك يا خنزير.. اسكت.. انطمر الله يطمر انفاسك انشاء الله.. كلام شني ومعني شني وسطير جروح شني؟ هذا كلام فارغ لا ليه لون ولا طعم ومش من تأليفك.. يعني انت حتى بعدما قريت وتخرجت مازلت قاعد زي القرد تقلد وتكرر في اللي يقولو فيه الثانيين..
امراجع: هذا مش كلام فارغ سيدي، هذا..
أحكم الملازم قبضتيه حول عنق امراجع وأخذ في عنف ووحشية يهز جسد السجين المتهالك والمرتعش من رعب وارهاب الأيدي الثورية.
الملازم: انت بأي لغة تفهم يا ولد ال...؟ انت تفتح خرارتك وتتكلم لمّا أنا نطلب منك بس، فهمت يا راس اللحم والا لا؟ انت كلب ضال تفتح فمك بيش تنبح لمّا أنا نعطيك الأمر بس. شني هالبهايم اللي حاصلين فيهم؟ (موجها كلامه لمساعديه) الباين عليك ذاكرتك حرقتها مع الجاوي والبخور والحشيش اللى تحرقو فيه في سهراتكم. تسمع فيا يا دكتوووووور امراجع والا لا؟ الله يهلكك انت وكحاحتك.. الباين انه عندك سرطان في الريّه.. اللهم احفظنا من بلاويكم.. انبح يا كلب! جاوب!
امراجع: نعم سيدي.
الملازم: اسمع يا دبك يا ولد ال... انا حنعطيك فرصة وحنطلقك ونخلّيك اتروّح لخربتكم ولأهلك اللي الله لا يربحهم ولا يسامحهم على ربايتهم الفاسدة فيك.. ولا شفتني ولا شفتك يا بسطاردو.. وماتنساش المواضيع اللي غنيّنا بيهم شهور.. ورد بالك تنسى فضلنا وفضل الثورة عليك.. نهارك أسود من شفاشيف راسك لو تطلع منك كلمة واحده بس عن اللي صار ما بيناتنا ولو تنسى من هم سيادك يا كناسه. والكلام اللي صار في ضيافتنا حييه عليك وعلى عيلتكم كلها لو تطلع منه كليمه واحده بس.. ولو كان باقي عندك شوية رجولة وشرف بعد اللي صارلك راك تنسى الكلام الوجّاع وتستر روحك خيرلك يا دكتور يا عظمه. لكن ما تنساش ان كل التعب والسهر والاجتماعات اللي درناها معاك راهي كلها من اجل مصلحة البلاد ومصلحة ناس بلادك يا عديم الضمير وناكر الجميل.. وعلشان تعرف اننا احنا ناس نظاف ونحبو العدل ومحافظين على حقوق الناس، اليوم يا سي البي الدكتور امراجع اتروّح لأهلك ونفتكو من كحاحتك وسرطانك وخليقتك اللي اتجيب النكد والغمه.
التفت الملازم الى ثلاثة مخبرين من مساعديه يرتدون الملابس المدنية يقفون بالقرب منه وصاح فيهم قائلا: امشوا مع هالخنزير لين اتوصلوه لغاية المحطة وادفعوا حق توصيله لبنغازي بس وبعدين هو يدبر راسه غادي.. يللا خوذو هالكناسه وفكوني منها ومن ريحتها المعفنه..
انقض المخبرين الثلاثة على السجين الدكتور امراجع المقيدة يديه وراء ظهره وأستلوه من الكرسي ليختفوا به خارج غرفة التحقيق.
الملازم: بالسلامة يادكتور امراجع.. رد بالك من أعصابك وسلّم لي على شيشة البيترصودا!
أدخل المخبرين الثلاثة ضحية الارهاب الثوري هذا الليبي البسيط الى أحدى الغرف المجاورة لمكتب التحقيق وانتزاع الاعترافات بالقوة. خلعوا عنه الكيس الاسود الذي كان يغطي وجهه أثناء التحقيق وفكوا ما كان يكبله من قيود. كان وجه امراجع محمرا من قسوة العنف الذي استعمل ضده ومن شدة وارتفاع درجة الحرارة داخل ذلك الكيس الاسود. بالرغم من احمرار وجهه، الا أن الحزن والمذلة وعلامات الضياع والمهانة وجدت الكثير من الامكان الصالحة للسكن بذلك الوجه البائس، وأتخذت الكآبة من عينيه عنوانا لها. اما الألم الذي تسببه أشعة الضوء عند ارتطامها بقاع العين فهو ألم لا يطاق.
فرج: مش قلنا لك يا راجل ما تجاوبش على الأسئلة الا لمّا الملازم يعطيك الأمر؟ الله يسامحك وخلاص.. راسك كاسح..نوض خش للحمّام واغسل وجهك وفرفش شويه.. اليوم اتروّح لأهلك.. خش معاه للحمّام يا طارق.
بدون كلام نهض امراجع ودخل الى دورة المياه مسلوب الارادة ويتبعه مرافقه طارق. شدة الألم وقسوته في الريانين والصدر والمعدة تكاد تفقده وعيه وتفرض عليه التحرك كعجوز في الثمانين من عمره..منحني الظهر وبطئ الحركة. حاول امراجع تغطية عينيه بأصابعه قبل ان يقف امام مرآة مشروخة لأول مرة منذ خمسة أشهر؟ ثمانية؟ عشرة أشهر ام أكثر؟ قاوم هذا المسكين الألم وأختلس نظرة باتجاه المرآة. تعرّف امراجع على نصف الوجه الذي عكسته المرآة. أعتصره ألم فظيع فأراد أن يصرخ.. أراد أن يبكي.. وأراد كذلك أن يهوي بقبضته الواهنة على تلك المرآة ليكسرها، لكنه خشى عاقبة ذلك. تمايل في ضعف أمام المرآة وأمسك بطرف حوض الغسيل المتسخ خوفا من ان تخونه بقايا قواه البدنية والنفسية ويفقد توازنه. حاول جاهدا أن يتنفس بهدؤ وببطء ليغذي الأكسجين دمه وخلايا جسده الذي مزقه العنف الثوري.
خرطوم مياه أخضر اللون به ثقوب كثيرة تسقي الحائط، يمتد كالثعبان قادما من فتحة صغيرة بجدار دورة المياه ويتدلى على جانب الحوض.
شعر هذا الدكتور الليبي بفقدان أجزاء كثيرة من كيانه عندما تذكر ما فعل به أبناء وطنه. اختلطت أحاسيس ومشاعر الجوع والوهن والمذلة والمرض والألم المبرح بالصدر والمعدة، أختلطت كل تلك المشاعر والاحاسيس بنقيضها وهو الشعور العابر بالفرحة.. الفرحة باقتراب ساعة اطلاق سراحه. وتمتم امراجع في سره (سأرى والدتي ووالدي غدا.. سألتقي بأخوتي قريبا.. ربما اليوم أو غدا.. خلاص هانت هانت)
وكاد امراجع أن يبتسم عندما أدرك أن حاسة الشم لديه لاتزال تعمل ولم تخنه بعد. الروائح الكريهة التي تسكن دورة المياة هذه، مضافاً اليها رائحة المواسير الصدئة ورطوبة الجدران وما ينبعث من كهوف الصراصير من روائح أخرى، أرغم هذا الخليط المقزز من الروائح حاسة الشم لدى امراجع على العمل. وكاد أن يغمى عليه عندما بدأ يشك في صدق نوايا سجّانه..أهذه هي نفس الطريقة التي استعملوها معه ومع غيره من قبل من أجل تعذيبهم وتحطيمهم نفسيا؟ كم مرة وعدوهم بالحرية والخلاص ونكثوا وعودهم في شماتة؟
مد امراجع يداه تحت خرطوم المياة الأخضر كأنه يستجدي عطفه عليه بالقليل من الماء ليغتسل به. وبعد أن بلل وجهه بالقليل من الماء رجع امراجع منهكاً برفقة مرافقه طارق الى غرفة المكتب المجاور.
فرج: أيوا يا أفندي.. اهو جا.. هذا هو الدكتور امراجع.
نقيب سعيد: اهلا اهلا يا دكتور امراجع.. مرحب مرحب.. تفضل قعمزيا خوي.. تفضل تريّح.. كيف احوالك؟ زارتنا البركة.. آنستنا يا خوي.. أهلا أهلاً..تفضل.
امراجع: الله يزيد فضلك سيدي.
وأحس امراجع برعشة تهز اوصاله وكيانه عندما أحتضنت كف يده كف يد النقيب سعيد في مصافحة عابرة. امراجع لم يرى ولم يصافرج: أيوا يا أفندي.. اهو جا.. هذا هو الدكتور امراجع.
نقيب سعيد: اهلا اهلا يا دكتور امراجع.. مرحب مرحب.. تفضل قعمز يا خوي.. تفضل تريّح.. كيف احوالك؟ زارتنا البركة.. آنستنا يا خوي.. أهلا أهلاً.. تفضل.
امراجع: الله يزيد فضلك سيدي.
وأحس امراجع برعشة تهز اوصاله وكيانه عندما أحتضنت كف يده كف يد النقيب سعيد في مصافحة عابرة. امراجع لم يرى ولم يصافح هذه اليد من قبل، لكنه يكاد أن يجزم بأنه قد لمسها أو "هي" لمسته من قبل.
اجتاحت نوبة السعال والآلام الحادة جسد امراجع مرة أخرى، وأعتصره الحزن والضعف حتى كاد أن يفقد وعيه.
النقيب سعيد: لا يا راجل مش هكي.. تعيب عليك راهو.. أنت دكتور تبارك الله والمفروض تعتني بصحتك. على العموم يا دكتور امراجع ما نبوش انعطلوك أكثر من اللازم.. آهو ربك كريم.. ووالله انا شخصيا تدخلت في موضوعك.. ايه والله.. وأقنعت الجماعة في اللجنة انك تبت ووليت مواطن صالح وملتزم وأعلنت التوبة عن خلابيط الزندقة. أنت راجل زي ما يقولو ملو هدومك دكتور جرّاح ما شاء الله وشني يفرض عليك الخشوش في الدين والسياسة؟ بالله فيه شوية اوراق نبوك اتوقع عليهم.. هنا فيه تعهد توقع عليه و...
وسرح امراجع في عالمه الخاص مفكرا: يا الله ! لقد سمعت هذا الصوت من قبل وتعودت أذناي على هذة النبرات.
نقيب سعيد: وبعدين يا خوي امراجع راهو الاسلام ما قالش هكي. أحنا ناس عندنا أخلاق وضمير ومروّة مش زي لامريكان واليهود.. ونخافوا على ليبيا والليبيين من الهوا وما نرضوش فيهم حتى دقة الشوكة وهادي هي ثورتنا المباركة.. الخوف من ربنا موجود ونصلو في الاوقات الخمسة ومع كل ركعة نقولو الله يحفظ بلادنا والثورة ويدوم لنا القايد.. ايه.. وما نقولوش لا لخير بلادنا اللي جانا مع الفاتح.. واللي عنده وجهة نظر ورأي ثاني يتفضل بكل رحابة صدر وعليه ستين الف آمان بس يتفضل يناقشنا ويقنعنا برأيه وحقوقه مضمونة عندنا.. لكن ما يفسدش شباب المجتمع بخلابيط الدين والاحزاب والكلام الفارغ عن الديمقراطية.. تفضل قدامك عندك المؤتمرات الشعبية وعندك اللجان الشعبية والروابط والنقابات والاتحادات المهنية وتقدر اتقول فيها رأيك بكل حرية مش موجودة في أي دولة ثانية وما يقدر حد يمسك لأنه هذا حقك.. يعني تقدر اتقول رأيك بكل صراحة وحرية لأن حقوق الانسان في بلادنا اول جماهيرية حقوق مضمونة وديمقراطيتنا حاسدينا عليها ناس هلبه والعالم كله...
وسرح امراجع في ربوع عالمه الخاص مرة ثانية: يا لسخرية القدر! هذا المدافع عن الديمقراطية وشرف الشعب الليبي ومحامي حقوق الانسان هذا، هو نفس الشخص الذي كان يعذبني بدون شفقة وأنا مغطي الرأس! هذا النقيب سعيد هو نفس الملازم الذي ذاق جسدي صفعات كفيه وركلات حذائه العسكري النتن وذاقت رقبتي قوة قبضة الجزار التي يملكها! انه هو نفس الشخص بالتأكيد وبدون أدني شك. له نفس الطريقة في اختزال الكلمات عند التحدث ونفس الطريقة العصبية في اللعب بالقلم.. ونفس الصوت الذي سمعته كثيرا خلال جلسات التحقيق معي. ذلك الصوت المنفعل والمتواصل الذي يصدر عند الطرق بالقلم على سطح طاولة المكتب بسرعة وبعصبية. يا الله! لم تعد رئتاي قادرتان على تحمل المزيد من هذا السعال المجنون. بأحشائي يستوطن الألم.. في عيناي ينطفئ بريق الحياة وأمامي يجلس منافق ثوري ومريض نفسي، السادية فقهه والغطرسة عقيدته، يطرق سطح المكتب بقلمه في عصبية يحاول اخفائها بين كلمات محاضرة مملة عن ديمقراطية الثوريين وثورتهم!
نقيب سعيد: اليوم نفرجو عنك يا سي البي، لكن نبو الزرده عاد.. آه امالا كيف عاد.. ايوا ايوا يا أستاذي.. ابصم قصدي وقّع هنا وما تنساش توقع على الوريقتين الزوز هادو.. ايوا.. وبعدين الورقة هادي.. وهادي.. وهادي.. وهنا فيه تعهد لازم توقّع عليه حتى هو.. وعندك بعدين الاقرار هذا.. توين باقي الاوراق يا فرج؟.. ايوا هنا ورقة الافراج عنك وبأنك في حالة صحية كويسة وما تبي منا شئ.. كلها شكليات وروتين اداري عادي يا دكتور.. احنا تهمنا مصلحتك وهالوريقات هادي كلها من اجل مصلحتك وتنفعك ما تضركش.. اقرا اقرا.. تفضل.. امنور يا دكتور امنور.. نشهد بالله انك راجل متعلم وفاهم.. هكي الاصول.. ما توقعش على اي ورقة قبل ما تقراها وهذا من حقوقك اللي تنص عليها الوثيقة الكبرى لحقوق الانسان.. امالا.. هذا مش لعب صغار.. آنستنا آنستنا.. تعرف يا دكتور امراجع، والله هادي اول مرة انشوف فيها توقيع دكتور جراحة ليبي. تصدق؟ ما شاء الله ما شاء الله.. شرفتنا يا دكتور.. والله المصلحة كلها حتشتاقلك بعد طلوعك.. وهادي وريقة ثانية تقول بأنك استلمت كل حاجاتك الخاصة بيك وقّع عليها حتى هي...
وبعد اتمام الاجراءات الادارية لاطلاق سراح الدكتور امراجع، استلم هذا المسكين محفظته التي صودرت منه ليلة القبض عليه. كان امراجع في ليلة القبض عليه يجلس أمام مسجد مدينته برفقة بعض الاصدقاء في انتظار بدء صلاة القيام. وكان ينوي بعد الصلاة، الذهاب الى سوق مدينته الساهرة ليتسوق مع أصدقائه وليشتري بعض الملابس ولوازم الاحتفال بالعيد لوالدته ولأخوته الصغار.. فلم يعد يتبقى سوى يومين او ثلاثة على انتهاء شهر الصيام. ولم يرجع امراجع في تلك الليلة الكئيبة الى بيته المتواضع محملا بملابس جديدة لأخوته وببعض البن المطحون الذي أوصته به الوالده. فلقد سرقت أنانية السلطان وتنابلته الجهلة فرحة العيد من امراجع ومن الآلاف من الليبيين الآخرين.
لم يجد الدكتور امراجع الشجاعة الكافية ليسأل السجّان الثوري عن مصير ساعة اليد والنقود المفقودة من المحفظة، لأن السجّان بالتأكيد سيعتبر ذلك في مثابة اتهام لهم بالسرقة ولكنه تشجع وسأل عن شئ آخر. امراجع وبسبب الآلام المبرحة التي يسببها ضوء النهار لعينيه، تشجع وسأل عن كيفية وامكانية الحصول على نظارة شمسية تقي عيناه اشعة ونور الشمس الذي نست عيناه كيفية التعامل معه. شرح مشكلته باختصار، وفي خجل تربع بعيون ليبية دامعة. وبعد نوبة ضحك هستيرية هاجمت النقيب سعيد ومساعديه، تطوع أحدهم بالرد على طلب امراجع قائلا: نظارات شمسية؟ تعادي عادي يا دكتور.. توّا بعد عشرة دقايق والا ساعتين تتعود عيونك على الضي والسميسه.. وبعدين اليوم ما فيش سمس هلبه.. وبصراحة توكيلات نظارات الريبان والبوليس والسرنقيتي ما زالوا ما وصلوناش.
وتابع النقيب ورفاقه الضحك على العيون الليبية التي تبكي آلما وتذرف دموعها في صمت أمامهم.
نقيب سعيد: توّا أنت هكي أفرجنا عنك رسميا يا دكتور امراجع.. ولو انه كنا نتمنو انه بوك كان هنا بيش حتى هو يتعلم اسلوب التربية المزبوطه.. لكن رد بالك تعاود صنعتك.. يللا وصلوه للمحطة! بالسلامة.. يللا يللا.. قاللي نظارات شمسية قال.
فتح طارق الباب الخلفي لسيارة نيسان رباعية الدفع أكل عليها الدهر وشرب، ثم دفع بالدكتور امراجع الى داخلها وراء مقعد السائق وأرتمى بجواره. قبل أن يغلق المخبر طارق الباب خلفه بعنف، وصل الى سمع الدكتور امراجع صراخ أحد السجناء من وراء السور.. ثم تبعته اسثغاتة آخر: الله يجازي اللي كان السبب.. حسبنا الله ونعم الوكيل.. الصبر يا امراجع.. الصبر يا خوي.
انطلقت سيارة النيسان المتهالكة متجهة الى محطة سيارات الأجرة بالقرب من وسط العاصمة طرابلس.
يجلس امراجع بالمقعد الخلفي للسيارة وراء السائق منصور برفقة مرافقه الرسمي طارق. السائق منصور في العقد الخامس من عمره، يرتدي الزي الليبي التقليدي المتمثل في البنطلون الأبيض الفضفاض والقميص الأبيض الطويل مضافا اليهما معطفا رمادي اللون لم يمنع بعضا من علامات الطيبة من السيطرة على ملامحه الليبية الأصيلة. امّا طارق، فهو شاب ليبي من مخبري أمن الجماهيرية في الخامسة والعشرون من العمر، ولكن يبدو وكأنه دخل الأربعينات من عمره الأسبوع الماضي.
أشعل طارق سيجارة وألتفت ناحية نافذة السيارة على يمينه ليتابع انزلاق قطرات المطر على زجاجها. أشتكى العم منصور من الازدحام وبطء حركة المرور، لكنه صبّ الكثير من غضب مكبوت على ماسحات الزجاج الرديئة وجهاز التهوئة بالسيارة.
طارق: هادي طرابلس.. شبوب مطر وزيارة وفد أفريقي تتصكر كل شوارعها.. تخوذ الشارع الثاني يا منصور.. عاليمين يا غشيم.
منصور: كل الشوارع ملبزه.. لا حول ولا قوة الا بالله.. فاضل على رمضان ثلاثة أيام بس وآهو الزحمة بدت من توّا.
لأول مرة في حياته يحس الدكتور امراجع بحبه للسحب.. لأنها تغطي قرص الشمس من حين لآخر. تلك السحب الرمادية العابرة تنقذ عيناه من معاناة الألم المبرح، لكن رخات المطر العابر جعلته يشعر أن طرابلس كلها تبكي لحاله ولحال أمثاله من الأبرياء وتستقبله بدموعها في أسى.
فجأة تردد صدى بعضا مما قاله العم منصور: " فاضل على رمضان ثلاثة أيام بس.. ".
أرتعدت اوصال امراجع كأنها تلقت لتوها صعقة كهربائية. يا للتعاسة ويا لبشاعة هذا الزمن الثوري الردئ! أعتقل امراجع بدون ذنب او جريمة أرتكبها قبل عيد الفطر بثلاثة أيام! وها هو يُطلق سراحه قبل رمضان جديد بثلاثة أيام! الا يعني ذلك أنه قضى سنة كاملة في سجن الثورة؟
أيجب عليه اعتبار نفسه محظوظا لأنه أطلق سراحه بعد سنة فقط من الاعتقال ولم يقضي سنتين او عشرة او عشرين في سجن ثوري لا يعترف بالعدل ولا بحقوق البشر في محاكمة عادلة ونزيهة؟
ماذا عن الليبيين الذين اعدمهم "الثوريين" بدون محاكمة باسم الثورة وباسم القائد وباسم قبيلته والقائد لم يتحرك ساكنا؟ بل نسى أنه في الأول من سبتمبر 1969 وعد بـ "لا سيد ولا مسود"!
وتمتم امراجع قائلاً: حسبي الله ونعم الوكيل.
صنع امراجع من يده اليسرى مظلة تظلل عيناه بينما ضغطت يده اليمنى على منطقة المعدة في محاولة لتخفيف الألم الذي يعبث بأحشائه.
وبكي سرا وفي صمت، شاكياً حظه التعس لنفسه: "انها القرحة بدون شك.. القرحة اللعينة".
طارق: صعبة دراسة الطب يا دكتور؟ أنت درست بالانجليزي والا بالهولندي؟ النمسا أكيد حلوه يا دكتور.
نوبة السعال والألم التي هاجمت امراجع لم تقنع طارق بضرورة التوقف عن البحث في امور الملف التعليمي للدكتور امراجع.
طارق: وكيف نظام الدراسة يا دكتور؟ أكيد مختلط.. بنات واولاد قصدي.. غريبة أنك ما حصلتش خدمة في بلاد برّه! والتأشيرة كيف؟ سهلة؟ ممكن الواحد يتجوز نمساوية ويقعد غادي؟
لم يتحصل الدكتور امراجع على فرصة للرد على أسئلة طارق. كان بوده اخبار طارق انه بالفعل وصلته عدة عروض للعمل ومواصلة البحث والدراسة في بلاد برّه ورفضها جميعا.
رفض امراجع تلك العروض وعاد لخدمة وطنه وأهله، لكن هذا الوطن في المقابل سرق منه ستة أعوام خدمة أجبارية قضاها في حراسة خزان مياه فاضي وبوابات مصانع عتيقة لاتنتج شيئا.. اربعة سنوات بطالة.. وسنة أعتقال وسجن بدون محاكمة!
كان بود الدكتور امراجع أن يخبر هذا المخبر المراهق أنه ترك بنات جامعات النمسا وبريطانيا ورجع لوطنه ليؤسس بيت وعائلة مع "بنت بلاده".. وأنه أجبر على خسارة وفقدان الكثير من محتويات خزائن قلبه وعقله..
طارق: وكيف شعورك يا دكتور؟.. يعني لمّا تكون في غرفة العمليات وتبدا في فتح بطن واحد مريض؟ كيف اعصابك تقدر تستحمل تقطيع لحم المريض وتشوف الدم.. يعني واحد قدامك قريب يموت ومصارينه طالعات لبرّه.. كيف تقدر تساعده بيش يعيش وتنقذ حياته؟
امراجع: تخصصي في جراحة الاعصاب، وتقطيع لحم العباد خلليته لناس ثانيه.
طارق: حتى انا بصراحة نفكر نطلع نقرا لبرّه.. قانون دولي او تخطيط وهندسة او ممكن حتى انخش نقرا طيران او فنون جميلة.. غير لو نحصّل واسطه قويه بس.. ما تعرفش حد ممكن يساعدني في هالموضوع يا دكتور؟ مازال عندك عناوين الجامعة في النمسا؟ بالك تعرف عايله نمساوية يساعدوني ونتعلم منهم شوية لغة انجليزية؟
منصور: يا ودي الشفاعه يا رسول الله.. الدكتور تعبان ومتخلطه عليه من كل تركينه.. بالله عليك خللي الراجل في حاله تربح.
طارق: تباهي باهي.. هذا حظ اوخيك.. ديما متصكره في وجهي.. وقليل الحظ يلقى العظم في الباسطي.
امراجع: بالله وعلى رحمة الشيّاب ترا اعطيني سيقارو.
طارق: سيقارو؟ لا لا لا يا خوي.. النقيب.. احم.. قصدي الملازم قاللك وفهّمك أن التدخين مش باهي ليك ومنعه عليك.. وأنت دكتور ومزكوم وصحتك يا ودي بالهون..
امراجع: يا أخي اعطيني سيقارو وما تتجملش عليا بمحاضراتك تربح.. راني سمعت محاضرات كفايه.
طارق: الدخان ممنوع عليك يا دكتور ممنووووع.. قاللي سيقارو قال.. باهي والله.
امتدت يد العم منصور من فوق كتفه الايمن حاملة علبة سجائر باتجاه الدكتور امراجع.
منصور: يا شينك حاله وخلاص.. تفضل خوذ يا دكتور.. تممنوع شني يا طارق؟ الراجل خلاص طِلقوه ومروّح لأهله وهو حر يدخن والا لا.. وبعدين دير روحك في مطراحه.. افرض انك انت اللي كنت محبوس ونيتك في سيقارو و..
طارق: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. بعيد السو عليا.. فال الله ولا فالك.. انشاء الله في راسك يا فرطاس.
منصور: فرطاس ولا بايخ وبخيل زيك.. وبعدين ما فيش داعي للاهانات واسلوبك متاع الشوارع.. انا قلت لك ما تبصرش معاي خيرلك.
شكر الدكتور امراجع العم منصور وأرجع له علبة السجائر بعد أن أخذ منها سيجارة.
منصور: ويبي نمساوية تتزوزه.. نوض سحيقة تسحقك وخازوق يخوزقك يا اللي ما تتحشمش.. توّا بالله عليك يا دكتور، هذا شكله شكل قرايه لبرّه؟
امراجع: يا ودي لا! موجود في مكانه المزبوط.
طارق: انطمر انت مع كحاحتك وخلليك ساكت.. اجبذ اجبذ الدخان وطلّع من خشومك.. انفخ ولا يهمك يادكتور.. آخرتها موت.. الدخان من منصور والولعه من طارق.. شني تبّي بعد هالخدمات الممتازة.. خمسة نجوم ونص وفوقهم توصيله للتاكسي.. ادلع ولا يهمك.. ادلل انت بس.
حاول امراجع ايجاد الوضع المريح ليتسنى له الاستمتاع بالسيجارة. ليس من السهل عليه أن يتذكر متى كانت آخر مرة استمتع فيها بسيجارة في سلام وفي هدوء. لم يكن مدخنا مدمنا او شرها أبدا، وفي أغلب الأوقات سيجارة واحدة في اليوم تكفيه. لكنه في محنته هذة بدأ يفقد العزيمة وقوة المقاومة.. مقاومة اغراء سيجارة أو أي شئ آخر.
لكم تمنى خلال الليالي الموحشة في حبسه الانفرادي أن يتحصل ولو على السم ليشربه ويتخلص من معاناته والمذلة التي أذاقها له "اخوته" أبناء بلده!
الايمان بالله وبالمصير وما كتبه الخالق للبشر ليمتحنهم به، هو السبب الرئيسي في وجود بقايا قدرة وقوة معنوية لدى امراجع، ساعدته على تحمل ما نزل به من ظلم بسبب تهمة باطلة بالانتماء لتنظيم سياسي لا وجود له الا في عقول الجهلة من الثوريين.
حالة امراجع الصحية التي يعرف انها تتدهور بسرعة، أجبرته على التخلي عن فكرة الاستمرار في مص دخان لفافة التبغ تلك. فتح النافذة ورمي السيجارة شبه الكاملة ليواصل سعاله الذي أدمى رئتيه والحنجرة. وبالرغم من الشعور بالغثيان، الا أنه تمكن من السيطرة على أعصابه وأقفل عينيه لتسرح أفكاره في عالم تائه.. مشتت.. كئيب وبائس.
طارق: هيا خوذلك هي.. خسارة والله.. ليش الفساد يادكتور؟ هيا تفضل يا سي منصور.. باهي توّا هكي؟ آهو السيقارو اللي اعطيتهوله رماه في الشارع قبل ما يكمله.. هذا مش فساد والا لا؟
منصور: غير أشقى انت بروحك بس وخللي الناس في حالها.. الاربعه وعشرين ساعه وانت تقيد في احوال العباد. عليك زحمة.. اتقول ليبيا فيها عشرين مليون.. يللا يللا يا مولاة الفرّاشيه.. يللا يا حاجّه خشي.. قصي الشارع.. تربحي سقدينا الطريق مفتوحة.. لا حول الله.
طارق: اشبح اشبح.. العزوز الحنقريفه انت وقفتلها وعطيتها الطريق وهي قاعده واقفه تتحلف فيك.. عزايز آخر دنيا.. خش خش يا متزبك.. ديريلها كلاكس وخوفها.. فكك منها.. ما تعدلش عليها.
منصور: انا المتزبك؟ والا اللي خبط الفولكس في الطابيا لسبوع اللي فات؟ الباين عليها الحاجّه عندها الشبح بالهون.. معليش.. الناس للناس والناس بالله.. تفضلي يا حاجّه.. باهي يا حاجّه.. والدينا ووالديك.. زينه يا أمي زينه.
طارق: الشبح بالهون؟ وخيرها مش لابسه نظارات طبية؟ هيا فك عليا.. زيد فيه زيد يا منصور.. شيط بينا.. هادو كان تحترمهم يشخو عليك.. اعفس عالبنزينه وسقدنا بيش نفتكو من هالمهمة.. ورانا مشاوير ثانيه.. بنجيبو السعي للسوق.
طارق: الشبح بالهون؟ وخيرها مش لابسه نظارات طبية؟ هيا فك عليا.. زيد فيه زيد يا منصور.. شيط بينا.. هادو كان تحترمهم يشخو عليك.. اعفس عالبنزينه وسقدنا بيش نفتكو من هالمهمة.. ورانا مشاوير ثانيه.. بنجيبو السعي للسوق.
منصور: نظارات طبية؟ امالا انت بترفعها لتونس والا للاردن يا فالح.
وتاه امراجع مرة أخرى في عالم الوحدة والكآبة: "سنة في الحبس يا عالم! عام سجن بدون ذنب يا مجرمين! ليه يا ربي؟ شن درنا في هالدنيا؟ وين الغلط؟ وين الثورة؟ وين الوعود؟ وراهم مشاوير ثانية؟ بيجيبو السعي للسوق! شباب ليبيا صاروا غنم ومواشي.. سعي تحت رحمة الثوريين! صرنا بهايم في نظرهم! سنة بدون محكمة وبدون محامي؟ اللي ليهم عشرة وعشرين عام في الحبس، كيف صبروا؟ وين ناسهم وين اهلهم؟ في ستين داهيه يا ثورة ظلمتينا.. في ستين داهيه يا ثورة حرقتينا ودمرتي حياتنا ومستقبلنا. انا متطرف؟ انا نود الشر لبلادي؟ انا خاين؟ انا نخطط لتفجيرات؟ أنا نخطط لانقلاب؟ شني الفرق بين القضاء والبوليس والعسكر الفاشيستي والنازي والصهيوني والثوري؟ ما فيش فرق، كلهم زي بعضهم ما يتريحوا الا بعد ما يشوفو دم الابرياء يجري والحبوس مليانه بالمساكين ومستعدين يقتلو البرئ بيش يخوفو اللي ممكن يفكر في شئ.. الله لا يسامح مليشيات عصر الشعارات المزيفة. رمونا في الحبوس بدون محاكمات وبدون علاج وبدون زيارات.. يارب، يا الله، هذه دعوة مظلوم على ظالم.. اللهم هد حيلهم يارب زي ما هدّوا حيلنا".
ولطالما استجدى دكتور امراجع سجّانيه واستعطفهم أن يجيبوه على سؤالاً ظل يطارده طيلة فترة اعتقاله: سيّدي.. ارجوك.. بالله عليك وعلى رحمة والديك.. ارجوك..هل بلغتوا أهلي؟ هل والدي وأهلي يعرفو وين أنا توّا؟
في أغلب الاوقات، يتلقى امراجع الجواب من عقيد او ملازم او عسكري لا يساوي فكره قيمة ملابسه، في شكل صفعات او ركلات تصاحبها بصقات من الاعماق. وليصرخوا في وجهه في قسوة وهمجية نادرة، بأن عائلته تنكر وجوده وأنهم لا يريدون سماع أخبار هذا الأبن الضال والزنديق الخائن.
وفي احدى المرات، وبعد أن تشجع امراجع وسأل عن عائلته مرة أخرى، أجابه الضابط المناوب: "ايوا أهلك يسلمو عليك ومشتاقينلك.. وحتى على فكرة بعتولك هدية.. استنى شوية".
وبعد حوالي خمسة دقائق قضاها امراجع متلهفا لرؤية "الهدية"، التي قال الضابط انها أهله ارسلوها له، وجد امراجع نفسه متأرجحا في اداة التعذيب "الفلقه" بينما بدأ "الثوريون" في استعراض عضلاتهم ومواهبهم في تسديد الضربات الى قدميه! أنهى الضابط المناوب ورفاقه الأحرار مراسم تقديم الهدية لمراجع قائلاً: بوك يا حقير يا ولد الحقير أعلن قدام جامعكم في مدينتكم وقدام كل خلق الله ان ولده امراجع مات وحتى تبرأ منك يا كلب يا صايع".
وتابع امراجع سرحانه ورحلته الشاقة في البحث والتفكير في كل ما حدث.. "أعرف أهلي وناسي.. وما سمعته عن ردود فعل والدي ما هو الا كذب ولكن، يا الله لماذا يجب أن يكون هناك دائماً " لكن" في حياة الانسان؟ أعرف أهلي ولكن،.. لماذا رضخوا لأساليب الارهاب والتخويف الثورية؟ لماذا لم يطرقوا كل الأبواب ليعرفوا ولو نصف الحقيقة عن اختفائي؟ عن أختفاء الآلاف من أبنائهم وآبائهم؟ المعتقلين والمظلومين بالآلاف في سجون الثورة ومن كل قرية ومدينة ليبية.. لو طالب آهاليهم بقوة وفي عزم وتصميم على معرفة مصير أحبائهم ومنذ البداية، لكانوا وصلوا لنصف الحقيقة على الأقل، فما الذي حدث؟ هل تنازل أهلنا بالفعل عن حقهم المقدس في معرفة ماذا فعل الحاكم بالمحكوم؟ هل خاف أهلي؟ اين شجاعة من حاربوا الفاشيست؟ أين شجاعة "التريس" من ذوي النظرات الحادة والمتجهمة، أصحاب "الشنابات اللي يوقف عليهن الصقر"؟ أم أن "الصقر" قد وقف بالفعل فوق تلك "الشنابات"؟ وين خبطة الراجل متاعة زمان لصدره؟ ماذا فعلت بنا الثورة وفقهها؟ أين الاصرار البدوي الاصيل المستعد للتضحية بكل غالي ورخيص من أجل نصرة الوطن والحق.. العدل.. الانسانية.. الشرف والكرامة؟
حوّلت الثورة آماني الشعب الى خطابات وشعارات رنانة.. وحوّل الثوريون مسار الثورة ليخدم مصالحهم ومصالح أقربائهم ومن يهتف لهم. وأتى الدور على الشعب ليحوّل ركائز أخلاقه ودعائم مجتمعه الى كلمات ومصطلحات جوفاء تغذي الاتكالية والسلبية في كل شئ.
طارق: بالله تربح فكنا وريّحنا من هالكحاحه متاعك يا دكتور.. كسرلتنا راسنا بيها وانت من الصبح اتكح.
منصور: حاله وخلاص.. والله المفروض الراجل نرفعوه للمستشفى مش للمحطة.
امراجع: لا لا مش لازم.. كثّر خيرك يا عمي منصور.
طارق: كيف؟ مستشفى؟ مستشفى شني يا فرطاس؟ توّا هذا كلام ايصير منه؟ والله ماني امبلّغ فيك الا النقيب يا فرطاس بيش تشعف.
امراجع: يرحم والديك تنسى الموضوع يا طارق.
طارق: تباهي باهي.. لكن بشرط الفطور عليك غدواه يا منصور.. والا بالله العظيم حنقول للنقيب انك صخفت على المحبوس وكنت تبّي ترفعه للمستشفى وتخالف التعليمات.
منصور: الطف بينا يارب.. يا ودي أنا ما قلتش هكي..
قرر امراجع مرة أخرى الهروب من اوجاعه الجسدية الى المكابدات الروحية: ".. ما الذي غيّر أهالينا؟ ما الذي غيّرنا؟ لا نشك في حبهم لنا لكن، لماذا تخلوا عنا في أبريل الأسود؟ لماذا نسونا في صحراء تشاد القاحلة وأدغال اوغندا الكئيبة؟ ماذا فعلنا للشلة الحاكمة حتى تصب علينا هذا الكم الهائل من التجاهل والتهميش والحقد والكراهية؟ من قال أن تغيير نظام الحكم في 1969 يعني بيع ليبيا بالكامل لحزب اللجان الثورية وزعيمه؟ لماذا وافق آبائنا وأغلبية الشعب الليبي على تأجيل حياتنا لكل هذة المدة، مقابل رضاء الحاكم وأقربائه علينا؟ كيف استطاعوا تصنيف الشعب الليبي الى موالين أغنياء.. وسلبيين فقراء.. وهتيفة أغبياء.. وخونة عملاء؟ لم أكن أهتم بالأمور السياسية قبل اعتقالي، وهذا خطاء من الأخطاء التي ارتكبها كل أفراد جيلي.. أخطأنا لأننا وثقنا في الثوريين ووعودهم وسمحنا لهم بتحويل كل ليبيا الى حقل تجارب ووافقنا لهم على تحويلنا الى آرانب في مختبر مثابتهم؟ نأكل ما يأمروننا به اليوم ونصوم كامل الاسبوع القادم اذا هم في عليائهم حلموا وأرادوا ذلك. وهاهو ذلك الخطأ يكلفنا حياتنا ومستقبلنا. صدقنا شعاراتهم وظننا أن الالتفات للدراسة وخدمة الوطن باخلاص هو ما يجب أن يركز عليه الشباب.. وهكذا فعلنا.. ولم نكن واعين لما يحاك ضدنا في الخفاء ولم نعارض. وسخرية القدر تكمن في أن أفعال الثوريين وكل من ركب مركبتهم الثورية، هم الذين صنعوا من الكثيرين منا معارضين.
فالثوريون تغنّوا بشباب ليبيا، ثم رموا به في مجاهل الجهل والمغامرات الخارجية وشتتوا أفكاره بين الخوف من تهمة الخيانة وكراهية الثورة ثم رموه في حضن البطالة وذهبوا ليشتروا برزقه الشركات والقصور الفاخرة ورضاء العاهرات.
بنى الثوريون مستشفى يفتقد لأبسط المواصفات بنصف المبلغ المخصص، تقاسموا النصف الثاني من الميزانية، ثم شكلوا لجنة شعبية من الجهلة لتدمر ذلك المستشفى.
بنوا مدارس بدون نوافذ ومجاري.. زرعوا الالغام بين أسطر المناهج .. وعلى مدرجات الجامعات الليبية وتحت شعار حماية الثورة، أغتصبوا ثقافة الأجيال القادمة في غطرسة ثورية لم يعرفها الشعب الليبي من قبل.
ألقوا بنا في غياهب السجون والمعتقلات السرية لمجرد الاشتباه في ولائنا لثوار أخذوا الخبز من أفواهنا ومن صحوننا وارسلوه لقتلة ودكتاتوريين ووثنيين في مجاهل أفريقيا ودول الجوار.
صفعونا في البوابات.
بصقوا على وجوهنا في طوابير الاسواق الشعبية.
نصبوا لنا المشانق كما فعل الغزاة الطليان لأجدادنا..
طاردونا في الداخل وفي الخارج.
منعوا وصول الرأي الآخر.
حرمونا من الدواء والتعليم والعلاج. ارغموا الأب على التجسس على ابنه. اشتروا ببترولنا سمعة دولية سيئة.. ثم جلسوا في مثاباتهم الثورية وبهو معسكراتهم المكيفة يسطرون الشعارات والوثائق الكبرى لحقوق الانسان وليوزعوا التعويضات على ضحاياهم من الأجانب في مقابل نيل رضاء أعداء الأمس! هذا هو نهج الثوري وفقهه، يدوس على المواطن بحذائه ثم يصرخ في وجهه: أنا أدرى بمصلحتك منك! لم يدركوا، أو انهم بالفعل أدراكوا ولم يهمهم، أنهم بأفعالهم تلك جعلونا نستنتج أن الأفكار والمبادئ الثورية المزيفة التي أحضروها ليستبيحوا بها دم وشرف المواطن، لا تستحق الاحترام.
آدميتنا سرقت منا باسم الثورة وقائدها، وهاهو القائد يعلم من سرق ومن قتل ومن اختلس ومن عذب ولا يفعل شيئاً.
لم تعرف دولة نفطية لا يتعدى عدد سكانها الأصليين الخمسة مليون، الفقر والبطالة وظاهرة التسول والعنوسة والانحطاط الاخلاقي والفساد الاداري والاخلاقي مثلما عرفت ليبيا خلال العهد الفوضوي الثوري.
لن يأتي الغد الأفضل لليبيا قبل استرجاع آدمية الليبي.
واصل دكتور امراجع السعال وجلد الذات سراً. كيف حدث ما حدث ولماذا؟ من أين أتت سلبيتنا وخوفنا؟ هل هي نتيجة لترسبات وتراكمات عهود التعسف والظلم والاذلال العثماني والايطالي والملكي والثوري؟ ام أن العهد الثوري أتى فقط لتعزيز وترسيخ ما بدأه الذين سبقوه، وليفوز عليهم بجدارة في مجالات الفساد والقتل والتهميش وفرض الطاعة العمياء بالقوة؟ لم ترهب "القوات المتحركة" المواطن الليبي أيام العهد الملكي مثلما فعلت مليشيات حزب اللجان الثورية الحاكم بالشعب الليبي.
مواطن ليبي جلس في ليبيا وسهر الليالي وأستهلك عشرات "البراريد" من الشاهي وربما الكثير من الويسكي وحرق المئات من السجائر، وشحذ أفكاره وخطط ونظّم استعدادته لتصفية ليبي آخر في روما مثلاً. تحصل هذا الليبي على الدعم المادي والمعنوي من الحكومة الليبية وقدمت له سفارة ليبيا وموظفيها الليبيين هناك كل التسهيلات ليدخل ايطاليا، ليتجسس وليتربص بضحيته ويتابعها حتى يتمكن من اغتيال ابن بلده في برود وسادية ثورية! الليبي الضحية كان فقط يخطط لاستكمال دراسته خارج ليبيا.. او يخطط لافتتاح مكتب تجاري كما فعل ويفعل الآلاف من الليبيين اليوم خاصة أبناء بشاوات عائلات التصعيد والانفتاح والخصخصة وخريجي معاهد الهتاف الثوري الليبي. ربما حاول ذلك الليبي الذي تم اغتياله على ايد ليبية ثورية، ربما حاول أن يقول أن ما جاء في الكتاب الأخضر ليس قرآنا منزلاً من عند الله وللمواطن الحق في انتقاد ما جاء فيه، لأن ما جاء في الكتاب الأخضر أتى من بشر غير معصوم عن الخطاء وأن دين الدولة الليبية الذي هو الاسلام يقر بأن الكمال لله وحده وليس الكمال للقائد وحده!
الليبي الذي تم اغتياله داخل او خارج ليبيا، أراد أن يقضي عمره في خدمة بلده وشعبه، وليس في نصرة او خدمة اوغندا وعيدي أمين وغيره من المتوحشين الدكتاتوريين أكلي لحوم البشر.. وحاول أن يقول أن ليبيا لكل الليبيين.. وحاول أن يقول لا للتأويل ولا للشخصنة ولا لتفضيل قبيلة على أخرى ولا" للخلف در" الثورية ولا لعبادة الملك او القائد او الرئيس ولا لتخوين كل من يرفض الفكر الثوري والممارسات الفاشية التي يمارسها أصحاب الرؤوس المليئة بالشعارات فقط.. وأن محبة ليبيا لا تعني محبة الملك او الرئيس.. وأنه هناك فرق بين الولاء للوطن والولاء لأي حاكم! والليبي الذي نفذ حكم الاعدام غدرا بأخيه الليبي بنأً على تعليمات أتت من بلكونة القصر الثوري، قدم تقريره لأسياده بعد رجوعه الى ليبيا منتصرا وغانما ليصرخ في ثورية فاشستية قائلا: تم تنفيذ المهمة سيّدي! صفيّنا الكلب الضال الليبي المدعو.. والكلب الضال المدعو.. والكلب الضال المدعو.. والمدعو.. والمدعو.. ورجعت قواتنا الى قواعدها سالمة.
مات الليبي تعيش الثورة! يعيش القائد ويسقط الخونة!
طارق: درّس السيارة هنا يا حصلة؟؟ مش مهم الطابور يا منصور.. خلليهم يستنو.. هذه محطة سيارات بنغازي.. خلاص وصلنا.. استنوني هنا.. رد بالك يا منصور!
نزل طارق من السيارة وأقترب من بعض سائقي سيارات الأجرة، وبدأ في التشاور معهم. تابع دكتور امراجع من مقعده مفاوضات طارق مع سائق سيارة الأجرة الذي عليه الدور والذي سيتجه بها الى بنغازي بعد امتلائها بالمسافرين. شعر امراجع كأنه طفل قاصر يقوم ولي أمره بترتيب اجراءات سفره نيابة عنه! دفع طارق للسائق أجرة توصيل امراجع الي بنغازي، ثم رجع الى سيارة "النيسان" التي وجد لها منصور مكانا بالقرب من هضبة للقمامة!
طارق: هيا أستاذنا هيا.. سقّدنا هيا بالك.. خف روحك.. المرسيدس اتراجي في سعادتكم يا دكتووور.. وتوصيلتك لبنغازي مدفوعة من خزينة الشعب.. شني تبّي أكثر من هكي.. يلا يلا..
ودع الدكتور امراجع العم منصور ونزل من السيارة ليتبع مرافقه طارق الى سيارة الأجرة.
طارق لسائق سيارة الأجرة: ايوا يا زعيم.. هذا اللي حكيتلك عليه.. راهو تعبان شويه.. وصله لبنغازي.. هيا بالسلامة يا امراجع.
وغادر طارق المكان على عجل، ليجد امراجع نفسه وحيدا وبدون مراقب او مرافق للمرة الأولى منذ زمن طويل.
امراجع: السلام عليكم!
السائق: وعليكم السلام ورحمة الله.. تفضل قعمز في السيارة.. مازلنا ناقصين ركاب. كيف ما فيش معاك لا شناطي ولا دبش؟ خفافي صوبك؟
امراجع: لا والله.. ماعنديش.. جت سفرتي هكي بسرعة ومستعجله شويه وما لحقتش ناخذ معاي شئ.. ايه خفافي واخذ على شد الرحيل امغرّب!
يتبع
اترككم مع احداثها
وفاة الدكتور امراجع
جديد جرحنا مازال.. على ما بكينا ما برا
- اتكأ التاريخ على جذع شجرة زيتون.. حدق باتجاه عجوز ليبي وسأله: كيف حالك يا ليبي؟ نظر الليبي في عيون التاريخ بأسى وفي حزن. طأطأ رأسه في ذل وأخذ يفكر.. ويفكر.. ويفكر. مسح حبات عرق بللت جبينه الأسمر الذي لوحته الشمس.
ترقرقت في عيناه دمعتان واستوطنت الغصة حلقه. حك العجوز الليبي مؤخرة رأسه في حيرة عفوية وأجرى تعديلا طفيفا على موقع غطاء رأسه. حاول الاجابة على السؤال الذي وجهه له التاريخ لكنه لم يستطع. عصر الألم قلبه. ارتفعت كتفاه قليلا.. حرّك يداه ببطء وبحزن في الهواء في محاولة يائسة للتعبير عما يدور بفكره وعجز لسانه عن الافصاح به. ارتعشت شفتاه وبللت الدموع مسارب الحزن في وجهه.
هز التاريخ رأسه في أسى وتفهم، وواصل رحلته قائلا: أعرف.. أعرف.
ولايزال العجوز الليبي يبحث عن اجابة. لا أقصد الاجابة على سؤال " كيف حالك يا ليبي؟" الذي سأله التاريخ، بل الاجابة على سؤال آخر كان يدور داخل جمجمة ذاك العجوز الليبي وهو: هل من الممكن أن ينسى التاريخ "كيف حال الليبيين"؟
الملازم: يا حيوان اتجاوب على سؤالي لمّا نؤمرك بالاجابة بس.. فهمت يا خرقة والا لا؟
امراجع: نعم سيدي
ويصفع الملازم خد امراجع الأيسر بكل مل اوتيت يمينه من قوة.
الملازم: يا حثالة أنا سألتك فهمت والا لا، ولكن ما طلبتش منك جواب.. ليش اتجاوب يا بهيم؟
امراجع: ......
الملازم: من أمك؟
امراجع: ......
الملازم: سألتك عن اسم امك يا حيوان! جاوبني
امراجع: أمي اسمها الثورة سيدي
الملازم: واسم بوك؟ بسرعة!
امراجع: بوي اسمه
وصفع الملازم امراجع عدة مرات حتى كاد كيس القماش الاسود الذي يغطي رأس السجين امراجع أن يطير من فوق رأسه.
الملازم: يا بهيم تجاوبني لمّا أنا نؤمرك بالاجابة بس.. يللا جاوب
امراجع: حاضر حاضر سيدي.. سامحني سيدي
الملازم: شني اسم بوك يا زمال؟ هيا جاوب.. اقذف ما تخافش
امراجع: بوي اسمه الفاتح سيدي
الملازم: الفاتح هو الثورة والثورة هي الفاتح.. يعني بوك هو امك وامك هي بوك وانت انجازهم. المجتمع كله هو الثورة والثورة هي المجتمع.. ولمّا انفذوا تعليمات قايد ثورتنا ونمشو على نهج الفقه الثوري الصحيح معناها اننا في مجتمعنا الجماهيري الثوري المسلم والمنظم ومش في حاجة لزندقة حثالة المجتمع اللي زيك. صح يا كناسه والا غلط؟ جاوبني!
امراجع: مزبوط سيدي
صفعة على الخد الأيمن تبعتها اخرى على الأيسر.
الملازم: لا مزبوط ولا مربوط يا حمار.. سألتك ان كان كلامي صح او غلط مش أكثر ولا أقل يا جاهل. جاوبني.
نوبة سعال حادة هاجمت امراجع تمكن السجين بعد مصارعتها من الاجابة..
امراجع: كلامك صح سيدي
الملازم: يا خرقة توا انت اعتبر روحك محظوظ لأنك أصبحت مواطن صالح ومن الممكن ان يستفيد منك المجتمع.. طبعا بعد ما تم تنظيفك من الوسخ اللي في مخك.. وبشرط ان تبعد عن شلة الجوامع وشيوخ الزندقة اللي قاعدين يبيعولك في اسلام معلب من عصر الجاهلية. احنا هنا في مجتمعنا الجماهيري السعيد مجتمع متماسك ومسلم وسعيد ونظيف وحضاري وبفضل القايد لقينا الحلول الجذرية لكافة المشاكل.. مش غير مشاكل ليبيا وبس، لا لا.. عندنا حلول جذرية لمشاكل الدنيا كلها.. الله يفتح على قايدنا وينوّره انشاء الله.. انت بدل ما تقرا الكتب الصفرا المفروض تقرا الكتاب الاخضر والأبيض والنظرية العالمية الثالثة والوثيقة الكبرى لحقوق الانسان، يا جاهل بيش تستفيد وممكن تفيد. نتمنى اني مانشوفش خلقتك مرة ثانية، والا بالله العظيم اذا اتطيح في ايدي مرة ثانية يا كلب مانك طالع من الضويفه، الا وانت تزحف زحف.. هذا اذا كان طلعت منها. توا انت في عز شبابك مازال وصحتك تقدر تعافر بيها ثور يا بقرة وتخصصك في جراحة مش عارف شني، ومتخرج من جامعة اوروبية وهذا تخصص باهي ومطلوب وتحتاجه بلادك وناسك و...
امراجع: تخصصي في جراحة الاعصاب سيدي
وساعدت الكف اليمنى للملازم أختها الكف اليسرى في صفع ولطم رأس امراجع المبلل بالعرق البارد ودموع امراجع الصامتة.
الملازم: ما تقاطعنيش بنباحك يا كلب! جراحة أعصاب او جراحة بواسير كله عندي بلح وأنا ما طلبتش منك تفتح فمك المسّخ يا وسخ.. توا أنت جرّاح أعصاب؟! انت مؤهل لحرق الاعصاب مش لجراحتها يا كلب.. حق والا لا؟ جاوبني يا جاهل!
امراجع: كلامك حق سيدي
بلل الملازم منديلا صغيرا بالماء ومسح به قطرات عرق غزت هضبة جبهته العريضة.. عنقه وأنفه المفطوس كذلك. أشعل سيجارة وقام يذرع الغرفة جيئة وذهابا في بطء مقصود، ومتعمدا أن يرتطم كعب حذائه بأرضية الغرفة بقوة في كل خطوة يخطوها. تلك هي الطريقة النازية وهكذا كان يفعل تلاميذ مدرسة هاينكر في ألمانيا الشرقية ورفاق تشاوشيسكو في رومانيا أيام غطرستهم البشعة.
الملازم: آه شني شعورك توّا يا دكتور تسليك المجاري البولية؟
امراجع: ......
الملازم: جاوب جاوب ما تخافش
امراجع: ما فهمتش سؤالك سيدي
وعادت نوبة السعال الحاد لتهاجم صدر ورئتي امراجع. لم يشفق الجلاّد لحال امراجع، ولم يأمر بازالة الكيس الاسود، الذي يغطي رأس السجين.
الملازم: وداير روحك قاري ودكتور وجرّاح متعلم وحتى متدين وانت اجهل من كندرتك.. بالعربي الفصيح يا امراجع، ما هو شعورك الآن يا ابن سينا؟ أجبني يا هذا!
امراجع: شعوري كيف ما تبيه سيدي.
الملازم: باهي.. لو طلبنا منك اتقول لنا عن الشئ اللي تتمناه واللي نيتك فيه توّا.. شني هو هالشئ هذا او شني هي الحاجة اللي تبيها وتتمناها في هالدقيقة؟ جاوب.
امراجع: سيقارو يا افندي.
الملازم: سيقارو؟ لا لا ما تقللش من مقامنا ومستوانا عاد.. رانا مش أغبياء يا دكتور. سيقارو معناها تحويلة المخلة اللي على راسك بيش اتشوفني وانشوفك، وانا بصراحة ما عنديش رغبة ولا نية انشوف خلقيتك.. وبعدين انت دكتور ومتعلم وتعرف ان التدخين مضر بالصحة، وخاصة مع كحاحة الصراديك اللي عندك.. صحتك عندنا يا دكتور بيه هي الكل في الكل. جماعتك في العنبر قالوا انك شاعر وتحب غناوي الكشك والفشك والعلم.. ترا يا سي الدكتور سمّعنا قصيدة والا تلحيمة علم تمشي مع هالموقف الاسود اللي زي وجهك.. جاوب يا عنتر بن شداد.
امراجع: ما يخطر علي بالي شئ توّا سيدي.
الملازم: معناها يا سي الدكتور احنا مش قد المقام وما قدرناش نوفرولك الجو الرومانسي والشاعري المناسب.. يعني ظلمناك.. ما عرفناش قيمتك.. غلطنا في حقك.. صح والا غلط يا دكتوووووور.. جاوب يا بهيم!
امراجع: سطير جراحنا مازال.. ما جيت يا مداوي عالوجع
الملازم: ويا علم ياعزيز! سيدي يا سيدي على أشعار الدكتور الجرّاح.. بالله عليك ما تتحشمش على وجهك يا بدوّي؟ داير روحك دكتور جراحة وقاعد تألف في هالكلام الفارغ.. جاوب يا سيادة الدكتور الطهّار.
امراجع: الكلام اللي قلته يا ريته من تأليفي سيدي.. وهالكلام ليه مضمون ومعني و....
صفعتان رافقتهما بصقة...
الملازم: اتفوه عليك يا خنزير.. اسكت.. انطمر الله يطمر انفاسك انشاء الله.. كلام شني ومعني شني وسطير جروح شني؟ هذا كلام فارغ لا ليه لون ولا طعم ومش من تأليفك.. يعني انت حتى بعدما قريت وتخرجت مازلت قاعد زي القرد تقلد وتكرر في اللي يقولو فيه الثانيين..
امراجع: هذا مش كلام فارغ سيدي، هذا..
أحكم الملازم قبضتيه حول عنق امراجع وأخذ في عنف ووحشية يهز جسد السجين المتهالك والمرتعش من رعب وارهاب الأيدي الثورية.
الملازم: انت بأي لغة تفهم يا ولد ال...؟ انت تفتح خرارتك وتتكلم لمّا أنا نطلب منك بس، فهمت يا راس اللحم والا لا؟ انت كلب ضال تفتح فمك بيش تنبح لمّا أنا نعطيك الأمر بس. شني هالبهايم اللي حاصلين فيهم؟ (موجها كلامه لمساعديه) الباين عليك ذاكرتك حرقتها مع الجاوي والبخور والحشيش اللى تحرقو فيه في سهراتكم. تسمع فيا يا دكتوووووور امراجع والا لا؟ الله يهلكك انت وكحاحتك.. الباين انه عندك سرطان في الريّه.. اللهم احفظنا من بلاويكم.. انبح يا كلب! جاوب!
امراجع: نعم سيدي.
الملازم: اسمع يا دبك يا ولد ال... انا حنعطيك فرصة وحنطلقك ونخلّيك اتروّح لخربتكم ولأهلك اللي الله لا يربحهم ولا يسامحهم على ربايتهم الفاسدة فيك.. ولا شفتني ولا شفتك يا بسطاردو.. وماتنساش المواضيع اللي غنيّنا بيهم شهور.. ورد بالك تنسى فضلنا وفضل الثورة عليك.. نهارك أسود من شفاشيف راسك لو تطلع منك كلمة واحده بس عن اللي صار ما بيناتنا ولو تنسى من هم سيادك يا كناسه. والكلام اللي صار في ضيافتنا حييه عليك وعلى عيلتكم كلها لو تطلع منه كليمه واحده بس.. ولو كان باقي عندك شوية رجولة وشرف بعد اللي صارلك راك تنسى الكلام الوجّاع وتستر روحك خيرلك يا دكتور يا عظمه. لكن ما تنساش ان كل التعب والسهر والاجتماعات اللي درناها معاك راهي كلها من اجل مصلحة البلاد ومصلحة ناس بلادك يا عديم الضمير وناكر الجميل.. وعلشان تعرف اننا احنا ناس نظاف ونحبو العدل ومحافظين على حقوق الناس، اليوم يا سي البي الدكتور امراجع اتروّح لأهلك ونفتكو من كحاحتك وسرطانك وخليقتك اللي اتجيب النكد والغمه.
التفت الملازم الى ثلاثة مخبرين من مساعديه يرتدون الملابس المدنية يقفون بالقرب منه وصاح فيهم قائلا: امشوا مع هالخنزير لين اتوصلوه لغاية المحطة وادفعوا حق توصيله لبنغازي بس وبعدين هو يدبر راسه غادي.. يللا خوذو هالكناسه وفكوني منها ومن ريحتها المعفنه..
انقض المخبرين الثلاثة على السجين الدكتور امراجع المقيدة يديه وراء ظهره وأستلوه من الكرسي ليختفوا به خارج غرفة التحقيق.
الملازم: بالسلامة يادكتور امراجع.. رد بالك من أعصابك وسلّم لي على شيشة البيترصودا!
أدخل المخبرين الثلاثة ضحية الارهاب الثوري هذا الليبي البسيط الى أحدى الغرف المجاورة لمكتب التحقيق وانتزاع الاعترافات بالقوة. خلعوا عنه الكيس الاسود الذي كان يغطي وجهه أثناء التحقيق وفكوا ما كان يكبله من قيود. كان وجه امراجع محمرا من قسوة العنف الذي استعمل ضده ومن شدة وارتفاع درجة الحرارة داخل ذلك الكيس الاسود. بالرغم من احمرار وجهه، الا أن الحزن والمذلة وعلامات الضياع والمهانة وجدت الكثير من الامكان الصالحة للسكن بذلك الوجه البائس، وأتخذت الكآبة من عينيه عنوانا لها. اما الألم الذي تسببه أشعة الضوء عند ارتطامها بقاع العين فهو ألم لا يطاق.
فرج: مش قلنا لك يا راجل ما تجاوبش على الأسئلة الا لمّا الملازم يعطيك الأمر؟ الله يسامحك وخلاص.. راسك كاسح..نوض خش للحمّام واغسل وجهك وفرفش شويه.. اليوم اتروّح لأهلك.. خش معاه للحمّام يا طارق.
بدون كلام نهض امراجع ودخل الى دورة المياه مسلوب الارادة ويتبعه مرافقه طارق. شدة الألم وقسوته في الريانين والصدر والمعدة تكاد تفقده وعيه وتفرض عليه التحرك كعجوز في الثمانين من عمره..منحني الظهر وبطئ الحركة. حاول امراجع تغطية عينيه بأصابعه قبل ان يقف امام مرآة مشروخة لأول مرة منذ خمسة أشهر؟ ثمانية؟ عشرة أشهر ام أكثر؟ قاوم هذا المسكين الألم وأختلس نظرة باتجاه المرآة. تعرّف امراجع على نصف الوجه الذي عكسته المرآة. أعتصره ألم فظيع فأراد أن يصرخ.. أراد أن يبكي.. وأراد كذلك أن يهوي بقبضته الواهنة على تلك المرآة ليكسرها، لكنه خشى عاقبة ذلك. تمايل في ضعف أمام المرآة وأمسك بطرف حوض الغسيل المتسخ خوفا من ان تخونه بقايا قواه البدنية والنفسية ويفقد توازنه. حاول جاهدا أن يتنفس بهدؤ وببطء ليغذي الأكسجين دمه وخلايا جسده الذي مزقه العنف الثوري.
خرطوم مياه أخضر اللون به ثقوب كثيرة تسقي الحائط، يمتد كالثعبان قادما من فتحة صغيرة بجدار دورة المياه ويتدلى على جانب الحوض.
شعر هذا الدكتور الليبي بفقدان أجزاء كثيرة من كيانه عندما تذكر ما فعل به أبناء وطنه. اختلطت أحاسيس ومشاعر الجوع والوهن والمذلة والمرض والألم المبرح بالصدر والمعدة، أختلطت كل تلك المشاعر والاحاسيس بنقيضها وهو الشعور العابر بالفرحة.. الفرحة باقتراب ساعة اطلاق سراحه. وتمتم امراجع في سره (سأرى والدتي ووالدي غدا.. سألتقي بأخوتي قريبا.. ربما اليوم أو غدا.. خلاص هانت هانت)
وكاد امراجع أن يبتسم عندما أدرك أن حاسة الشم لديه لاتزال تعمل ولم تخنه بعد. الروائح الكريهة التي تسكن دورة المياة هذه، مضافاً اليها رائحة المواسير الصدئة ورطوبة الجدران وما ينبعث من كهوف الصراصير من روائح أخرى، أرغم هذا الخليط المقزز من الروائح حاسة الشم لدى امراجع على العمل. وكاد أن يغمى عليه عندما بدأ يشك في صدق نوايا سجّانه..أهذه هي نفس الطريقة التي استعملوها معه ومع غيره من قبل من أجل تعذيبهم وتحطيمهم نفسيا؟ كم مرة وعدوهم بالحرية والخلاص ونكثوا وعودهم في شماتة؟
مد امراجع يداه تحت خرطوم المياة الأخضر كأنه يستجدي عطفه عليه بالقليل من الماء ليغتسل به. وبعد أن بلل وجهه بالقليل من الماء رجع امراجع منهكاً برفقة مرافقه طارق الى غرفة المكتب المجاور.
فرج: أيوا يا أفندي.. اهو جا.. هذا هو الدكتور امراجع.
نقيب سعيد: اهلا اهلا يا دكتور امراجع.. مرحب مرحب.. تفضل قعمزيا خوي.. تفضل تريّح.. كيف احوالك؟ زارتنا البركة.. آنستنا يا خوي.. أهلا أهلاً..تفضل.
امراجع: الله يزيد فضلك سيدي.
وأحس امراجع برعشة تهز اوصاله وكيانه عندما أحتضنت كف يده كف يد النقيب سعيد في مصافحة عابرة. امراجع لم يرى ولم يصافرج: أيوا يا أفندي.. اهو جا.. هذا هو الدكتور امراجع.
نقيب سعيد: اهلا اهلا يا دكتور امراجع.. مرحب مرحب.. تفضل قعمز يا خوي.. تفضل تريّح.. كيف احوالك؟ زارتنا البركة.. آنستنا يا خوي.. أهلا أهلاً.. تفضل.
امراجع: الله يزيد فضلك سيدي.
وأحس امراجع برعشة تهز اوصاله وكيانه عندما أحتضنت كف يده كف يد النقيب سعيد في مصافحة عابرة. امراجع لم يرى ولم يصافح هذه اليد من قبل، لكنه يكاد أن يجزم بأنه قد لمسها أو "هي" لمسته من قبل.
اجتاحت نوبة السعال والآلام الحادة جسد امراجع مرة أخرى، وأعتصره الحزن والضعف حتى كاد أن يفقد وعيه.
النقيب سعيد: لا يا راجل مش هكي.. تعيب عليك راهو.. أنت دكتور تبارك الله والمفروض تعتني بصحتك. على العموم يا دكتور امراجع ما نبوش انعطلوك أكثر من اللازم.. آهو ربك كريم.. ووالله انا شخصيا تدخلت في موضوعك.. ايه والله.. وأقنعت الجماعة في اللجنة انك تبت ووليت مواطن صالح وملتزم وأعلنت التوبة عن خلابيط الزندقة. أنت راجل زي ما يقولو ملو هدومك دكتور جرّاح ما شاء الله وشني يفرض عليك الخشوش في الدين والسياسة؟ بالله فيه شوية اوراق نبوك اتوقع عليهم.. هنا فيه تعهد توقع عليه و...
وسرح امراجع في عالمه الخاص مفكرا: يا الله ! لقد سمعت هذا الصوت من قبل وتعودت أذناي على هذة النبرات.
نقيب سعيد: وبعدين يا خوي امراجع راهو الاسلام ما قالش هكي. أحنا ناس عندنا أخلاق وضمير ومروّة مش زي لامريكان واليهود.. ونخافوا على ليبيا والليبيين من الهوا وما نرضوش فيهم حتى دقة الشوكة وهادي هي ثورتنا المباركة.. الخوف من ربنا موجود ونصلو في الاوقات الخمسة ومع كل ركعة نقولو الله يحفظ بلادنا والثورة ويدوم لنا القايد.. ايه.. وما نقولوش لا لخير بلادنا اللي جانا مع الفاتح.. واللي عنده وجهة نظر ورأي ثاني يتفضل بكل رحابة صدر وعليه ستين الف آمان بس يتفضل يناقشنا ويقنعنا برأيه وحقوقه مضمونة عندنا.. لكن ما يفسدش شباب المجتمع بخلابيط الدين والاحزاب والكلام الفارغ عن الديمقراطية.. تفضل قدامك عندك المؤتمرات الشعبية وعندك اللجان الشعبية والروابط والنقابات والاتحادات المهنية وتقدر اتقول فيها رأيك بكل حرية مش موجودة في أي دولة ثانية وما يقدر حد يمسك لأنه هذا حقك.. يعني تقدر اتقول رأيك بكل صراحة وحرية لأن حقوق الانسان في بلادنا اول جماهيرية حقوق مضمونة وديمقراطيتنا حاسدينا عليها ناس هلبه والعالم كله...
وسرح امراجع في ربوع عالمه الخاص مرة ثانية: يا لسخرية القدر! هذا المدافع عن الديمقراطية وشرف الشعب الليبي ومحامي حقوق الانسان هذا، هو نفس الشخص الذي كان يعذبني بدون شفقة وأنا مغطي الرأس! هذا النقيب سعيد هو نفس الملازم الذي ذاق جسدي صفعات كفيه وركلات حذائه العسكري النتن وذاقت رقبتي قوة قبضة الجزار التي يملكها! انه هو نفس الشخص بالتأكيد وبدون أدني شك. له نفس الطريقة في اختزال الكلمات عند التحدث ونفس الطريقة العصبية في اللعب بالقلم.. ونفس الصوت الذي سمعته كثيرا خلال جلسات التحقيق معي. ذلك الصوت المنفعل والمتواصل الذي يصدر عند الطرق بالقلم على سطح طاولة المكتب بسرعة وبعصبية. يا الله! لم تعد رئتاي قادرتان على تحمل المزيد من هذا السعال المجنون. بأحشائي يستوطن الألم.. في عيناي ينطفئ بريق الحياة وأمامي يجلس منافق ثوري ومريض نفسي، السادية فقهه والغطرسة عقيدته، يطرق سطح المكتب بقلمه في عصبية يحاول اخفائها بين كلمات محاضرة مملة عن ديمقراطية الثوريين وثورتهم!
نقيب سعيد: اليوم نفرجو عنك يا سي البي، لكن نبو الزرده عاد.. آه امالا كيف عاد.. ايوا ايوا يا أستاذي.. ابصم قصدي وقّع هنا وما تنساش توقع على الوريقتين الزوز هادو.. ايوا.. وبعدين الورقة هادي.. وهادي.. وهادي.. وهنا فيه تعهد لازم توقّع عليه حتى هو.. وعندك بعدين الاقرار هذا.. توين باقي الاوراق يا فرج؟.. ايوا هنا ورقة الافراج عنك وبأنك في حالة صحية كويسة وما تبي منا شئ.. كلها شكليات وروتين اداري عادي يا دكتور.. احنا تهمنا مصلحتك وهالوريقات هادي كلها من اجل مصلحتك وتنفعك ما تضركش.. اقرا اقرا.. تفضل.. امنور يا دكتور امنور.. نشهد بالله انك راجل متعلم وفاهم.. هكي الاصول.. ما توقعش على اي ورقة قبل ما تقراها وهذا من حقوقك اللي تنص عليها الوثيقة الكبرى لحقوق الانسان.. امالا.. هذا مش لعب صغار.. آنستنا آنستنا.. تعرف يا دكتور امراجع، والله هادي اول مرة انشوف فيها توقيع دكتور جراحة ليبي. تصدق؟ ما شاء الله ما شاء الله.. شرفتنا يا دكتور.. والله المصلحة كلها حتشتاقلك بعد طلوعك.. وهادي وريقة ثانية تقول بأنك استلمت كل حاجاتك الخاصة بيك وقّع عليها حتى هي...
وبعد اتمام الاجراءات الادارية لاطلاق سراح الدكتور امراجع، استلم هذا المسكين محفظته التي صودرت منه ليلة القبض عليه. كان امراجع في ليلة القبض عليه يجلس أمام مسجد مدينته برفقة بعض الاصدقاء في انتظار بدء صلاة القيام. وكان ينوي بعد الصلاة، الذهاب الى سوق مدينته الساهرة ليتسوق مع أصدقائه وليشتري بعض الملابس ولوازم الاحتفال بالعيد لوالدته ولأخوته الصغار.. فلم يعد يتبقى سوى يومين او ثلاثة على انتهاء شهر الصيام. ولم يرجع امراجع في تلك الليلة الكئيبة الى بيته المتواضع محملا بملابس جديدة لأخوته وببعض البن المطحون الذي أوصته به الوالده. فلقد سرقت أنانية السلطان وتنابلته الجهلة فرحة العيد من امراجع ومن الآلاف من الليبيين الآخرين.
لم يجد الدكتور امراجع الشجاعة الكافية ليسأل السجّان الثوري عن مصير ساعة اليد والنقود المفقودة من المحفظة، لأن السجّان بالتأكيد سيعتبر ذلك في مثابة اتهام لهم بالسرقة ولكنه تشجع وسأل عن شئ آخر. امراجع وبسبب الآلام المبرحة التي يسببها ضوء النهار لعينيه، تشجع وسأل عن كيفية وامكانية الحصول على نظارة شمسية تقي عيناه اشعة ونور الشمس الذي نست عيناه كيفية التعامل معه. شرح مشكلته باختصار، وفي خجل تربع بعيون ليبية دامعة. وبعد نوبة ضحك هستيرية هاجمت النقيب سعيد ومساعديه، تطوع أحدهم بالرد على طلب امراجع قائلا: نظارات شمسية؟ تعادي عادي يا دكتور.. توّا بعد عشرة دقايق والا ساعتين تتعود عيونك على الضي والسميسه.. وبعدين اليوم ما فيش سمس هلبه.. وبصراحة توكيلات نظارات الريبان والبوليس والسرنقيتي ما زالوا ما وصلوناش.
وتابع النقيب ورفاقه الضحك على العيون الليبية التي تبكي آلما وتذرف دموعها في صمت أمامهم.
نقيب سعيد: توّا أنت هكي أفرجنا عنك رسميا يا دكتور امراجع.. ولو انه كنا نتمنو انه بوك كان هنا بيش حتى هو يتعلم اسلوب التربية المزبوطه.. لكن رد بالك تعاود صنعتك.. يللا وصلوه للمحطة! بالسلامة.. يللا يللا.. قاللي نظارات شمسية قال.
فتح طارق الباب الخلفي لسيارة نيسان رباعية الدفع أكل عليها الدهر وشرب، ثم دفع بالدكتور امراجع الى داخلها وراء مقعد السائق وأرتمى بجواره. قبل أن يغلق المخبر طارق الباب خلفه بعنف، وصل الى سمع الدكتور امراجع صراخ أحد السجناء من وراء السور.. ثم تبعته اسثغاتة آخر: الله يجازي اللي كان السبب.. حسبنا الله ونعم الوكيل.. الصبر يا امراجع.. الصبر يا خوي.
انطلقت سيارة النيسان المتهالكة متجهة الى محطة سيارات الأجرة بالقرب من وسط العاصمة طرابلس.
يجلس امراجع بالمقعد الخلفي للسيارة وراء السائق منصور برفقة مرافقه الرسمي طارق. السائق منصور في العقد الخامس من عمره، يرتدي الزي الليبي التقليدي المتمثل في البنطلون الأبيض الفضفاض والقميص الأبيض الطويل مضافا اليهما معطفا رمادي اللون لم يمنع بعضا من علامات الطيبة من السيطرة على ملامحه الليبية الأصيلة. امّا طارق، فهو شاب ليبي من مخبري أمن الجماهيرية في الخامسة والعشرون من العمر، ولكن يبدو وكأنه دخل الأربعينات من عمره الأسبوع الماضي.
أشعل طارق سيجارة وألتفت ناحية نافذة السيارة على يمينه ليتابع انزلاق قطرات المطر على زجاجها. أشتكى العم منصور من الازدحام وبطء حركة المرور، لكنه صبّ الكثير من غضب مكبوت على ماسحات الزجاج الرديئة وجهاز التهوئة بالسيارة.
طارق: هادي طرابلس.. شبوب مطر وزيارة وفد أفريقي تتصكر كل شوارعها.. تخوذ الشارع الثاني يا منصور.. عاليمين يا غشيم.
منصور: كل الشوارع ملبزه.. لا حول ولا قوة الا بالله.. فاضل على رمضان ثلاثة أيام بس وآهو الزحمة بدت من توّا.
لأول مرة في حياته يحس الدكتور امراجع بحبه للسحب.. لأنها تغطي قرص الشمس من حين لآخر. تلك السحب الرمادية العابرة تنقذ عيناه من معاناة الألم المبرح، لكن رخات المطر العابر جعلته يشعر أن طرابلس كلها تبكي لحاله ولحال أمثاله من الأبرياء وتستقبله بدموعها في أسى.
فجأة تردد صدى بعضا مما قاله العم منصور: " فاضل على رمضان ثلاثة أيام بس.. ".
أرتعدت اوصال امراجع كأنها تلقت لتوها صعقة كهربائية. يا للتعاسة ويا لبشاعة هذا الزمن الثوري الردئ! أعتقل امراجع بدون ذنب او جريمة أرتكبها قبل عيد الفطر بثلاثة أيام! وها هو يُطلق سراحه قبل رمضان جديد بثلاثة أيام! الا يعني ذلك أنه قضى سنة كاملة في سجن الثورة؟
أيجب عليه اعتبار نفسه محظوظا لأنه أطلق سراحه بعد سنة فقط من الاعتقال ولم يقضي سنتين او عشرة او عشرين في سجن ثوري لا يعترف بالعدل ولا بحقوق البشر في محاكمة عادلة ونزيهة؟
ماذا عن الليبيين الذين اعدمهم "الثوريين" بدون محاكمة باسم الثورة وباسم القائد وباسم قبيلته والقائد لم يتحرك ساكنا؟ بل نسى أنه في الأول من سبتمبر 1969 وعد بـ "لا سيد ولا مسود"!
وتمتم امراجع قائلاً: حسبي الله ونعم الوكيل.
صنع امراجع من يده اليسرى مظلة تظلل عيناه بينما ضغطت يده اليمنى على منطقة المعدة في محاولة لتخفيف الألم الذي يعبث بأحشائه.
وبكي سرا وفي صمت، شاكياً حظه التعس لنفسه: "انها القرحة بدون شك.. القرحة اللعينة".
طارق: صعبة دراسة الطب يا دكتور؟ أنت درست بالانجليزي والا بالهولندي؟ النمسا أكيد حلوه يا دكتور.
نوبة السعال والألم التي هاجمت امراجع لم تقنع طارق بضرورة التوقف عن البحث في امور الملف التعليمي للدكتور امراجع.
طارق: وكيف نظام الدراسة يا دكتور؟ أكيد مختلط.. بنات واولاد قصدي.. غريبة أنك ما حصلتش خدمة في بلاد برّه! والتأشيرة كيف؟ سهلة؟ ممكن الواحد يتجوز نمساوية ويقعد غادي؟
لم يتحصل الدكتور امراجع على فرصة للرد على أسئلة طارق. كان بوده اخبار طارق انه بالفعل وصلته عدة عروض للعمل ومواصلة البحث والدراسة في بلاد برّه ورفضها جميعا.
رفض امراجع تلك العروض وعاد لخدمة وطنه وأهله، لكن هذا الوطن في المقابل سرق منه ستة أعوام خدمة أجبارية قضاها في حراسة خزان مياه فاضي وبوابات مصانع عتيقة لاتنتج شيئا.. اربعة سنوات بطالة.. وسنة أعتقال وسجن بدون محاكمة!
كان بود الدكتور امراجع أن يخبر هذا المخبر المراهق أنه ترك بنات جامعات النمسا وبريطانيا ورجع لوطنه ليؤسس بيت وعائلة مع "بنت بلاده".. وأنه أجبر على خسارة وفقدان الكثير من محتويات خزائن قلبه وعقله..
طارق: وكيف شعورك يا دكتور؟.. يعني لمّا تكون في غرفة العمليات وتبدا في فتح بطن واحد مريض؟ كيف اعصابك تقدر تستحمل تقطيع لحم المريض وتشوف الدم.. يعني واحد قدامك قريب يموت ومصارينه طالعات لبرّه.. كيف تقدر تساعده بيش يعيش وتنقذ حياته؟
امراجع: تخصصي في جراحة الاعصاب، وتقطيع لحم العباد خلليته لناس ثانيه.
طارق: حتى انا بصراحة نفكر نطلع نقرا لبرّه.. قانون دولي او تخطيط وهندسة او ممكن حتى انخش نقرا طيران او فنون جميلة.. غير لو نحصّل واسطه قويه بس.. ما تعرفش حد ممكن يساعدني في هالموضوع يا دكتور؟ مازال عندك عناوين الجامعة في النمسا؟ بالك تعرف عايله نمساوية يساعدوني ونتعلم منهم شوية لغة انجليزية؟
منصور: يا ودي الشفاعه يا رسول الله.. الدكتور تعبان ومتخلطه عليه من كل تركينه.. بالله عليك خللي الراجل في حاله تربح.
طارق: تباهي باهي.. هذا حظ اوخيك.. ديما متصكره في وجهي.. وقليل الحظ يلقى العظم في الباسطي.
امراجع: بالله وعلى رحمة الشيّاب ترا اعطيني سيقارو.
طارق: سيقارو؟ لا لا لا يا خوي.. النقيب.. احم.. قصدي الملازم قاللك وفهّمك أن التدخين مش باهي ليك ومنعه عليك.. وأنت دكتور ومزكوم وصحتك يا ودي بالهون..
امراجع: يا أخي اعطيني سيقارو وما تتجملش عليا بمحاضراتك تربح.. راني سمعت محاضرات كفايه.
طارق: الدخان ممنوع عليك يا دكتور ممنووووع.. قاللي سيقارو قال.. باهي والله.
امتدت يد العم منصور من فوق كتفه الايمن حاملة علبة سجائر باتجاه الدكتور امراجع.
منصور: يا شينك حاله وخلاص.. تفضل خوذ يا دكتور.. تممنوع شني يا طارق؟ الراجل خلاص طِلقوه ومروّح لأهله وهو حر يدخن والا لا.. وبعدين دير روحك في مطراحه.. افرض انك انت اللي كنت محبوس ونيتك في سيقارو و..
طارق: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. بعيد السو عليا.. فال الله ولا فالك.. انشاء الله في راسك يا فرطاس.
منصور: فرطاس ولا بايخ وبخيل زيك.. وبعدين ما فيش داعي للاهانات واسلوبك متاع الشوارع.. انا قلت لك ما تبصرش معاي خيرلك.
شكر الدكتور امراجع العم منصور وأرجع له علبة السجائر بعد أن أخذ منها سيجارة.
منصور: ويبي نمساوية تتزوزه.. نوض سحيقة تسحقك وخازوق يخوزقك يا اللي ما تتحشمش.. توّا بالله عليك يا دكتور، هذا شكله شكل قرايه لبرّه؟
امراجع: يا ودي لا! موجود في مكانه المزبوط.
طارق: انطمر انت مع كحاحتك وخلليك ساكت.. اجبذ اجبذ الدخان وطلّع من خشومك.. انفخ ولا يهمك يادكتور.. آخرتها موت.. الدخان من منصور والولعه من طارق.. شني تبّي بعد هالخدمات الممتازة.. خمسة نجوم ونص وفوقهم توصيله للتاكسي.. ادلع ولا يهمك.. ادلل انت بس.
حاول امراجع ايجاد الوضع المريح ليتسنى له الاستمتاع بالسيجارة. ليس من السهل عليه أن يتذكر متى كانت آخر مرة استمتع فيها بسيجارة في سلام وفي هدوء. لم يكن مدخنا مدمنا او شرها أبدا، وفي أغلب الأوقات سيجارة واحدة في اليوم تكفيه. لكنه في محنته هذة بدأ يفقد العزيمة وقوة المقاومة.. مقاومة اغراء سيجارة أو أي شئ آخر.
لكم تمنى خلال الليالي الموحشة في حبسه الانفرادي أن يتحصل ولو على السم ليشربه ويتخلص من معاناته والمذلة التي أذاقها له "اخوته" أبناء بلده!
الايمان بالله وبالمصير وما كتبه الخالق للبشر ليمتحنهم به، هو السبب الرئيسي في وجود بقايا قدرة وقوة معنوية لدى امراجع، ساعدته على تحمل ما نزل به من ظلم بسبب تهمة باطلة بالانتماء لتنظيم سياسي لا وجود له الا في عقول الجهلة من الثوريين.
حالة امراجع الصحية التي يعرف انها تتدهور بسرعة، أجبرته على التخلي عن فكرة الاستمرار في مص دخان لفافة التبغ تلك. فتح النافذة ورمي السيجارة شبه الكاملة ليواصل سعاله الذي أدمى رئتيه والحنجرة. وبالرغم من الشعور بالغثيان، الا أنه تمكن من السيطرة على أعصابه وأقفل عينيه لتسرح أفكاره في عالم تائه.. مشتت.. كئيب وبائس.
طارق: هيا خوذلك هي.. خسارة والله.. ليش الفساد يادكتور؟ هيا تفضل يا سي منصور.. باهي توّا هكي؟ آهو السيقارو اللي اعطيتهوله رماه في الشارع قبل ما يكمله.. هذا مش فساد والا لا؟
منصور: غير أشقى انت بروحك بس وخللي الناس في حالها.. الاربعه وعشرين ساعه وانت تقيد في احوال العباد. عليك زحمة.. اتقول ليبيا فيها عشرين مليون.. يللا يللا يا مولاة الفرّاشيه.. يللا يا حاجّه خشي.. قصي الشارع.. تربحي سقدينا الطريق مفتوحة.. لا حول الله.
طارق: اشبح اشبح.. العزوز الحنقريفه انت وقفتلها وعطيتها الطريق وهي قاعده واقفه تتحلف فيك.. عزايز آخر دنيا.. خش خش يا متزبك.. ديريلها كلاكس وخوفها.. فكك منها.. ما تعدلش عليها.
منصور: انا المتزبك؟ والا اللي خبط الفولكس في الطابيا لسبوع اللي فات؟ الباين عليها الحاجّه عندها الشبح بالهون.. معليش.. الناس للناس والناس بالله.. تفضلي يا حاجّه.. باهي يا حاجّه.. والدينا ووالديك.. زينه يا أمي زينه.
طارق: الشبح بالهون؟ وخيرها مش لابسه نظارات طبية؟ هيا فك عليا.. زيد فيه زيد يا منصور.. شيط بينا.. هادو كان تحترمهم يشخو عليك.. اعفس عالبنزينه وسقدنا بيش نفتكو من هالمهمة.. ورانا مشاوير ثانيه.. بنجيبو السعي للسوق.
طارق: الشبح بالهون؟ وخيرها مش لابسه نظارات طبية؟ هيا فك عليا.. زيد فيه زيد يا منصور.. شيط بينا.. هادو كان تحترمهم يشخو عليك.. اعفس عالبنزينه وسقدنا بيش نفتكو من هالمهمة.. ورانا مشاوير ثانيه.. بنجيبو السعي للسوق.
منصور: نظارات طبية؟ امالا انت بترفعها لتونس والا للاردن يا فالح.
وتاه امراجع مرة أخرى في عالم الوحدة والكآبة: "سنة في الحبس يا عالم! عام سجن بدون ذنب يا مجرمين! ليه يا ربي؟ شن درنا في هالدنيا؟ وين الغلط؟ وين الثورة؟ وين الوعود؟ وراهم مشاوير ثانية؟ بيجيبو السعي للسوق! شباب ليبيا صاروا غنم ومواشي.. سعي تحت رحمة الثوريين! صرنا بهايم في نظرهم! سنة بدون محكمة وبدون محامي؟ اللي ليهم عشرة وعشرين عام في الحبس، كيف صبروا؟ وين ناسهم وين اهلهم؟ في ستين داهيه يا ثورة ظلمتينا.. في ستين داهيه يا ثورة حرقتينا ودمرتي حياتنا ومستقبلنا. انا متطرف؟ انا نود الشر لبلادي؟ انا خاين؟ انا نخطط لتفجيرات؟ أنا نخطط لانقلاب؟ شني الفرق بين القضاء والبوليس والعسكر الفاشيستي والنازي والصهيوني والثوري؟ ما فيش فرق، كلهم زي بعضهم ما يتريحوا الا بعد ما يشوفو دم الابرياء يجري والحبوس مليانه بالمساكين ومستعدين يقتلو البرئ بيش يخوفو اللي ممكن يفكر في شئ.. الله لا يسامح مليشيات عصر الشعارات المزيفة. رمونا في الحبوس بدون محاكمات وبدون علاج وبدون زيارات.. يارب، يا الله، هذه دعوة مظلوم على ظالم.. اللهم هد حيلهم يارب زي ما هدّوا حيلنا".
ولطالما استجدى دكتور امراجع سجّانيه واستعطفهم أن يجيبوه على سؤالاً ظل يطارده طيلة فترة اعتقاله: سيّدي.. ارجوك.. بالله عليك وعلى رحمة والديك.. ارجوك..هل بلغتوا أهلي؟ هل والدي وأهلي يعرفو وين أنا توّا؟
في أغلب الاوقات، يتلقى امراجع الجواب من عقيد او ملازم او عسكري لا يساوي فكره قيمة ملابسه، في شكل صفعات او ركلات تصاحبها بصقات من الاعماق. وليصرخوا في وجهه في قسوة وهمجية نادرة، بأن عائلته تنكر وجوده وأنهم لا يريدون سماع أخبار هذا الأبن الضال والزنديق الخائن.
وفي احدى المرات، وبعد أن تشجع امراجع وسأل عن عائلته مرة أخرى، أجابه الضابط المناوب: "ايوا أهلك يسلمو عليك ومشتاقينلك.. وحتى على فكرة بعتولك هدية.. استنى شوية".
وبعد حوالي خمسة دقائق قضاها امراجع متلهفا لرؤية "الهدية"، التي قال الضابط انها أهله ارسلوها له، وجد امراجع نفسه متأرجحا في اداة التعذيب "الفلقه" بينما بدأ "الثوريون" في استعراض عضلاتهم ومواهبهم في تسديد الضربات الى قدميه! أنهى الضابط المناوب ورفاقه الأحرار مراسم تقديم الهدية لمراجع قائلاً: بوك يا حقير يا ولد الحقير أعلن قدام جامعكم في مدينتكم وقدام كل خلق الله ان ولده امراجع مات وحتى تبرأ منك يا كلب يا صايع".
وتابع امراجع سرحانه ورحلته الشاقة في البحث والتفكير في كل ما حدث.. "أعرف أهلي وناسي.. وما سمعته عن ردود فعل والدي ما هو الا كذب ولكن، يا الله لماذا يجب أن يكون هناك دائماً " لكن" في حياة الانسان؟ أعرف أهلي ولكن،.. لماذا رضخوا لأساليب الارهاب والتخويف الثورية؟ لماذا لم يطرقوا كل الأبواب ليعرفوا ولو نصف الحقيقة عن اختفائي؟ عن أختفاء الآلاف من أبنائهم وآبائهم؟ المعتقلين والمظلومين بالآلاف في سجون الثورة ومن كل قرية ومدينة ليبية.. لو طالب آهاليهم بقوة وفي عزم وتصميم على معرفة مصير أحبائهم ومنذ البداية، لكانوا وصلوا لنصف الحقيقة على الأقل، فما الذي حدث؟ هل تنازل أهلنا بالفعل عن حقهم المقدس في معرفة ماذا فعل الحاكم بالمحكوم؟ هل خاف أهلي؟ اين شجاعة من حاربوا الفاشيست؟ أين شجاعة "التريس" من ذوي النظرات الحادة والمتجهمة، أصحاب "الشنابات اللي يوقف عليهن الصقر"؟ أم أن "الصقر" قد وقف بالفعل فوق تلك "الشنابات"؟ وين خبطة الراجل متاعة زمان لصدره؟ ماذا فعلت بنا الثورة وفقهها؟ أين الاصرار البدوي الاصيل المستعد للتضحية بكل غالي ورخيص من أجل نصرة الوطن والحق.. العدل.. الانسانية.. الشرف والكرامة؟
حوّلت الثورة آماني الشعب الى خطابات وشعارات رنانة.. وحوّل الثوريون مسار الثورة ليخدم مصالحهم ومصالح أقربائهم ومن يهتف لهم. وأتى الدور على الشعب ليحوّل ركائز أخلاقه ودعائم مجتمعه الى كلمات ومصطلحات جوفاء تغذي الاتكالية والسلبية في كل شئ.
طارق: بالله تربح فكنا وريّحنا من هالكحاحه متاعك يا دكتور.. كسرلتنا راسنا بيها وانت من الصبح اتكح.
منصور: حاله وخلاص.. والله المفروض الراجل نرفعوه للمستشفى مش للمحطة.
امراجع: لا لا مش لازم.. كثّر خيرك يا عمي منصور.
طارق: كيف؟ مستشفى؟ مستشفى شني يا فرطاس؟ توّا هذا كلام ايصير منه؟ والله ماني امبلّغ فيك الا النقيب يا فرطاس بيش تشعف.
امراجع: يرحم والديك تنسى الموضوع يا طارق.
طارق: تباهي باهي.. لكن بشرط الفطور عليك غدواه يا منصور.. والا بالله العظيم حنقول للنقيب انك صخفت على المحبوس وكنت تبّي ترفعه للمستشفى وتخالف التعليمات.
منصور: الطف بينا يارب.. يا ودي أنا ما قلتش هكي..
قرر امراجع مرة أخرى الهروب من اوجاعه الجسدية الى المكابدات الروحية: ".. ما الذي غيّر أهالينا؟ ما الذي غيّرنا؟ لا نشك في حبهم لنا لكن، لماذا تخلوا عنا في أبريل الأسود؟ لماذا نسونا في صحراء تشاد القاحلة وأدغال اوغندا الكئيبة؟ ماذا فعلنا للشلة الحاكمة حتى تصب علينا هذا الكم الهائل من التجاهل والتهميش والحقد والكراهية؟ من قال أن تغيير نظام الحكم في 1969 يعني بيع ليبيا بالكامل لحزب اللجان الثورية وزعيمه؟ لماذا وافق آبائنا وأغلبية الشعب الليبي على تأجيل حياتنا لكل هذة المدة، مقابل رضاء الحاكم وأقربائه علينا؟ كيف استطاعوا تصنيف الشعب الليبي الى موالين أغنياء.. وسلبيين فقراء.. وهتيفة أغبياء.. وخونة عملاء؟ لم أكن أهتم بالأمور السياسية قبل اعتقالي، وهذا خطاء من الأخطاء التي ارتكبها كل أفراد جيلي.. أخطأنا لأننا وثقنا في الثوريين ووعودهم وسمحنا لهم بتحويل كل ليبيا الى حقل تجارب ووافقنا لهم على تحويلنا الى آرانب في مختبر مثابتهم؟ نأكل ما يأمروننا به اليوم ونصوم كامل الاسبوع القادم اذا هم في عليائهم حلموا وأرادوا ذلك. وهاهو ذلك الخطأ يكلفنا حياتنا ومستقبلنا. صدقنا شعاراتهم وظننا أن الالتفات للدراسة وخدمة الوطن باخلاص هو ما يجب أن يركز عليه الشباب.. وهكذا فعلنا.. ولم نكن واعين لما يحاك ضدنا في الخفاء ولم نعارض. وسخرية القدر تكمن في أن أفعال الثوريين وكل من ركب مركبتهم الثورية، هم الذين صنعوا من الكثيرين منا معارضين.
فالثوريون تغنّوا بشباب ليبيا، ثم رموا به في مجاهل الجهل والمغامرات الخارجية وشتتوا أفكاره بين الخوف من تهمة الخيانة وكراهية الثورة ثم رموه في حضن البطالة وذهبوا ليشتروا برزقه الشركات والقصور الفاخرة ورضاء العاهرات.
بنى الثوريون مستشفى يفتقد لأبسط المواصفات بنصف المبلغ المخصص، تقاسموا النصف الثاني من الميزانية، ثم شكلوا لجنة شعبية من الجهلة لتدمر ذلك المستشفى.
بنوا مدارس بدون نوافذ ومجاري.. زرعوا الالغام بين أسطر المناهج .. وعلى مدرجات الجامعات الليبية وتحت شعار حماية الثورة، أغتصبوا ثقافة الأجيال القادمة في غطرسة ثورية لم يعرفها الشعب الليبي من قبل.
ألقوا بنا في غياهب السجون والمعتقلات السرية لمجرد الاشتباه في ولائنا لثوار أخذوا الخبز من أفواهنا ومن صحوننا وارسلوه لقتلة ودكتاتوريين ووثنيين في مجاهل أفريقيا ودول الجوار.
صفعونا في البوابات.
بصقوا على وجوهنا في طوابير الاسواق الشعبية.
نصبوا لنا المشانق كما فعل الغزاة الطليان لأجدادنا..
طاردونا في الداخل وفي الخارج.
منعوا وصول الرأي الآخر.
حرمونا من الدواء والتعليم والعلاج. ارغموا الأب على التجسس على ابنه. اشتروا ببترولنا سمعة دولية سيئة.. ثم جلسوا في مثاباتهم الثورية وبهو معسكراتهم المكيفة يسطرون الشعارات والوثائق الكبرى لحقوق الانسان وليوزعوا التعويضات على ضحاياهم من الأجانب في مقابل نيل رضاء أعداء الأمس! هذا هو نهج الثوري وفقهه، يدوس على المواطن بحذائه ثم يصرخ في وجهه: أنا أدرى بمصلحتك منك! لم يدركوا، أو انهم بالفعل أدراكوا ولم يهمهم، أنهم بأفعالهم تلك جعلونا نستنتج أن الأفكار والمبادئ الثورية المزيفة التي أحضروها ليستبيحوا بها دم وشرف المواطن، لا تستحق الاحترام.
آدميتنا سرقت منا باسم الثورة وقائدها، وهاهو القائد يعلم من سرق ومن قتل ومن اختلس ومن عذب ولا يفعل شيئاً.
لم تعرف دولة نفطية لا يتعدى عدد سكانها الأصليين الخمسة مليون، الفقر والبطالة وظاهرة التسول والعنوسة والانحطاط الاخلاقي والفساد الاداري والاخلاقي مثلما عرفت ليبيا خلال العهد الفوضوي الثوري.
لن يأتي الغد الأفضل لليبيا قبل استرجاع آدمية الليبي.
واصل دكتور امراجع السعال وجلد الذات سراً. كيف حدث ما حدث ولماذا؟ من أين أتت سلبيتنا وخوفنا؟ هل هي نتيجة لترسبات وتراكمات عهود التعسف والظلم والاذلال العثماني والايطالي والملكي والثوري؟ ام أن العهد الثوري أتى فقط لتعزيز وترسيخ ما بدأه الذين سبقوه، وليفوز عليهم بجدارة في مجالات الفساد والقتل والتهميش وفرض الطاعة العمياء بالقوة؟ لم ترهب "القوات المتحركة" المواطن الليبي أيام العهد الملكي مثلما فعلت مليشيات حزب اللجان الثورية الحاكم بالشعب الليبي.
مواطن ليبي جلس في ليبيا وسهر الليالي وأستهلك عشرات "البراريد" من الشاهي وربما الكثير من الويسكي وحرق المئات من السجائر، وشحذ أفكاره وخطط ونظّم استعدادته لتصفية ليبي آخر في روما مثلاً. تحصل هذا الليبي على الدعم المادي والمعنوي من الحكومة الليبية وقدمت له سفارة ليبيا وموظفيها الليبيين هناك كل التسهيلات ليدخل ايطاليا، ليتجسس وليتربص بضحيته ويتابعها حتى يتمكن من اغتيال ابن بلده في برود وسادية ثورية! الليبي الضحية كان فقط يخطط لاستكمال دراسته خارج ليبيا.. او يخطط لافتتاح مكتب تجاري كما فعل ويفعل الآلاف من الليبيين اليوم خاصة أبناء بشاوات عائلات التصعيد والانفتاح والخصخصة وخريجي معاهد الهتاف الثوري الليبي. ربما حاول ذلك الليبي الذي تم اغتياله على ايد ليبية ثورية، ربما حاول أن يقول أن ما جاء في الكتاب الأخضر ليس قرآنا منزلاً من عند الله وللمواطن الحق في انتقاد ما جاء فيه، لأن ما جاء في الكتاب الأخضر أتى من بشر غير معصوم عن الخطاء وأن دين الدولة الليبية الذي هو الاسلام يقر بأن الكمال لله وحده وليس الكمال للقائد وحده!
الليبي الذي تم اغتياله داخل او خارج ليبيا، أراد أن يقضي عمره في خدمة بلده وشعبه، وليس في نصرة او خدمة اوغندا وعيدي أمين وغيره من المتوحشين الدكتاتوريين أكلي لحوم البشر.. وحاول أن يقول أن ليبيا لكل الليبيين.. وحاول أن يقول لا للتأويل ولا للشخصنة ولا لتفضيل قبيلة على أخرى ولا" للخلف در" الثورية ولا لعبادة الملك او القائد او الرئيس ولا لتخوين كل من يرفض الفكر الثوري والممارسات الفاشية التي يمارسها أصحاب الرؤوس المليئة بالشعارات فقط.. وأن محبة ليبيا لا تعني محبة الملك او الرئيس.. وأنه هناك فرق بين الولاء للوطن والولاء لأي حاكم! والليبي الذي نفذ حكم الاعدام غدرا بأخيه الليبي بنأً على تعليمات أتت من بلكونة القصر الثوري، قدم تقريره لأسياده بعد رجوعه الى ليبيا منتصرا وغانما ليصرخ في ثورية فاشستية قائلا: تم تنفيذ المهمة سيّدي! صفيّنا الكلب الضال الليبي المدعو.. والكلب الضال المدعو.. والكلب الضال المدعو.. والمدعو.. والمدعو.. ورجعت قواتنا الى قواعدها سالمة.
مات الليبي تعيش الثورة! يعيش القائد ويسقط الخونة!
طارق: درّس السيارة هنا يا حصلة؟؟ مش مهم الطابور يا منصور.. خلليهم يستنو.. هذه محطة سيارات بنغازي.. خلاص وصلنا.. استنوني هنا.. رد بالك يا منصور!
نزل طارق من السيارة وأقترب من بعض سائقي سيارات الأجرة، وبدأ في التشاور معهم. تابع دكتور امراجع من مقعده مفاوضات طارق مع سائق سيارة الأجرة الذي عليه الدور والذي سيتجه بها الى بنغازي بعد امتلائها بالمسافرين. شعر امراجع كأنه طفل قاصر يقوم ولي أمره بترتيب اجراءات سفره نيابة عنه! دفع طارق للسائق أجرة توصيل امراجع الي بنغازي، ثم رجع الى سيارة "النيسان" التي وجد لها منصور مكانا بالقرب من هضبة للقمامة!
طارق: هيا أستاذنا هيا.. سقّدنا هيا بالك.. خف روحك.. المرسيدس اتراجي في سعادتكم يا دكتووور.. وتوصيلتك لبنغازي مدفوعة من خزينة الشعب.. شني تبّي أكثر من هكي.. يلا يلا..
ودع الدكتور امراجع العم منصور ونزل من السيارة ليتبع مرافقه طارق الى سيارة الأجرة.
طارق لسائق سيارة الأجرة: ايوا يا زعيم.. هذا اللي حكيتلك عليه.. راهو تعبان شويه.. وصله لبنغازي.. هيا بالسلامة يا امراجع.
وغادر طارق المكان على عجل، ليجد امراجع نفسه وحيدا وبدون مراقب او مرافق للمرة الأولى منذ زمن طويل.
امراجع: السلام عليكم!
السائق: وعليكم السلام ورحمة الله.. تفضل قعمز في السيارة.. مازلنا ناقصين ركاب. كيف ما فيش معاك لا شناطي ولا دبش؟ خفافي صوبك؟
امراجع: لا والله.. ماعنديش.. جت سفرتي هكي بسرعة ومستعجله شويه وما لحقتش ناخذ معاي شئ.. ايه خفافي واخذ على شد الرحيل امغرّب!
يتبع
رد: وفاة الدكتور امراجع
السائق: باهي.. احجزلك مكان في السيارة.. السفر تساهيل من ربك يا بو صاحب.. وما تعرفش كيف، بالكي بعد نص ساعة ربك ايصخّر وتتعبا السيارة ونسقدو.. قول يا رب.
امراجع: يا رب.
بجوار مقعد السائق يجلس راكبان، أحدهم يتصفح مجلة ما والآخر يغط في سبات عميق، امّا بقية المقاعد بالسيارة فهي لا تزال شاغرة.
ارتمى امراجع على المقعد وراء مقعد السائق بوسط السيارة، وحاول أن يخفي أعراض مرضه وألمه عن سائقي سيارات الأجرة الواقفين بجوار السيارة وعن بقية المسافرين. أمامه رحلة طويلة وشاقة، فكيف سيتحملها؟ بدأ يشعر بدوار عنيف وضعف شديد بعد أن التقطت حاسة الشم لديه روائح المأكولات الشعبية الشهية مختلطة بروائح الشاهي والقهوة القادمة من المقاهي والمطاعم الكثيرة التي تحيط بالمحطة. تلك الروائح المسيلة للعاب، طغت على الروائح المنبعثة من براميل القمامة الفائضة بما فيها من قاذورات بالقرب من موقف سيارات الأجرة، وعلى الروائح المنبعثة من بعض دورات المياه الميدانية بجوار جدران قديمة وبيوت متآكلة تجاور المحطة. وتختلط تلك الروائح بأصوات وصياح الباعة والموسيقى وأصوات منبهات السيارات والحافلات وعادمها في ملحمة يومية تخلقها الذروة والازدحام.
قرص الجوع بعنف أحشاء دكتور امراجع، وشعر بالحزن لفقره وخلو محفظته من المال، فقرر أن يحاول اجترار بعضا من صبر أيوب ليبي أصيل لم يتمكن السجّان من مصادرته. هل تعرف كيف يكون الشعور بالجوع في عاصمة بلدك؟ هل تدرك معنى الشعور بالوحدة لدى سجين برئ، مريض وجائع أطلق سراحه، ومنذ ساعات قليلة فقط كان جسده يتلقى الصفعات وروحه تتلقى الاهانات؟ هل تستطيع تخيل معاناة كهذة؟ لا أعتقد!
أغلق دكتور امراجع عيناه وألقى بما تبقى لديه من فكره وخياله الى عالم الهروب من الواقع الحزين وسرح من جديد:" سأصل لبيتي اليوم او غدا.. وسآكل من أيدي الوالدة وأختي.. الله يمسيهم بالخير.. يا الله! ما أطيب رائحة البن المطحون لتوه! بالتأكيد يوجد مطحن للبن قريبا من هنا ومنه تنبعث هذة الرائحة اللذيذة.. من أين لي ببعض المال لأشتري لوالدتي قليلا من هذا البن المخلوط بالحبهان؟ من يعطيني مناديل ورق أمسح بها أحزاني وقطرات دمي الآتية من أعماقي مع كل نوبة سعال مجنونة؟ لا وقت للتفكير في ذلك الآن.. فقط لو أستطيع الوصول الى بنغازي بسرعة.. لن اواصل المشوار الى بيتي وسأبقى عند ابن عمي فرج في بنغازي لأسبوع او أثنين.. فأنا لا أريد عائلتي أن تراني وأنا بهذا الوضع المزري.. آه لو أستطيع الاتصال بفرج.. الله يلعن الكحاحة والدوخة والجوع..".
أفاق امراجع على يد السائق تهزه بقوة..
السائق: هوووه يا أخينا.. يا أستاذ.. بسم الله الرحمن الرحيم.. افطن لروحك.. خيرك انت كنّك لاباس.. العرق يصب منك ووجهك صاير زي الليمة القارصه.. أصحى يا خوي وسمّي بسم الله.. هاك اميّه أشرب شويه وأغسل وجهك.. تخيرك انت لا باس شني قصتك يا راي؟ كانك مستاجع امشي للطبيب انكان لقيت..
امراجع: آه.. ايوا.. باهي اوكي اوكي.. لا ما فيا شي.. ما فيه الا الخير انشاء الله.. هانت خلاص هانت يا بو صاحب.
السائق: وبعدين يا بن عمي راهو الطريق طويلة وانت لا جايب معاك لا وكال ولا شراب.. كيف دوتك انت؟ جيبلك حتى شويشة اميّه تبلل بيها ريقك على الأقل.. رانا باذن الله مانا واقفين الا بعد مصراته.
امراجع: باهي اوكي.. خلليها على الله يا بو صاحب.
وخجل الدكتور امراجع من الاعتراف لسائق سيارة الاجرة بأن محفظته خاوية وأنه لا يملك درهما واحداً.
نزل امراجع من السيارة ليرش بعض الماء على وجهه من الزجاجة التي أعطاها له السائق. فجأة ظهر أمامه العم منصور سائق سيارة النيسان الحكومية التي أوصلته من مكان سجنه الى المحطة.
منصور: لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.. سامحني يا دكتور امراجع.. سامحني يا اوليدي.. العين بصيره واليد قصيره.. الله يكون في عونك يا ولدي.
وضع العم منصور في يد امراجع كيسا صغيرا أزرق اللون به زجاجة ماء، زجاجة عصير "يوقا" وبعض البسكويت، وأسرع ليختفي في الزحام. سيطرت دهشة المفاجأة وحرارة عواطف العم منصور على كيان الدكتور امراجع الذي تسمر في مكانه بالقرب من سيارة الأجرة.
بسط امراجع كف يده اليمنى، فوجد به ديناران تركهما له العم منصور عندما صافحه مودعا على عجل. قاوم الدكتور امراجع الرغبة في البكاء بسبب موقف العم منصور الملئ بالعواطف الحارة والمشاعر الصادقة. وأدرك أن السبب في تأثره بتلك اللفتة الانسانية، يرجع لشعوره بالفرحة.. الفرحة لمعرفة أنه لايزال في هذا البلد ليبيون طيبون وشرفاء وكرماء. فرحته تلك كادت أن تجعله يبكي كالطفل في صدق وبراءة. وتذكر كيف كان دائما يشعر بالفخر بليبيته وانتمائه لهذا الشعب ولهذا التراب.. لكنه تذكر كذلك انه لا يحق للرجل الليبي البكاء علنا، فلم يبكي وحبس دموعه في خزينة للدموع الليبية السرية يعرفها كل ليبي!
صفعات ملازم لن تجعلني أكره بلدي!
ركلات نقيب واهانات رائد وبواب وسجّان لن تنتزع عشقي لشعبي من قلبي!
لن أكره شعبي بسبب ظلمة الحبس الانفرادي.. لن تتمكن شعارات جوفاء وبرامج غسيل الدماغ الثورية من محو حبي لبلدي من قلبي.. الثورية لا تعني الوطنية! كم أحببتك يا ليبيا قبل "الفلقه" وكم أحبك بعدها! سيأتي الغد الأفضل يا ليبيا سيأتي، لكن من سيعوضنا عن ما سرقه الثوريون منا حتى الآن؟
وخطر على بال امراجع الذهاب الى محل قريب ليشتري ما يسمح ديناران دولة نفطية عظمى بشرائه.
امراجع لسائق التاكسي: حنوصل لعند الدكان اللي هنا وجاي.. على رحمة شيّابك ما تسيبنيش هنا.
السائق: باهي لكن ما تتعطلش علينا واجد..رانا قريب نتوكلو.
امراجع: لا لا، بالكثير ربع ساعة.
ترك امراجع سيارة الأجرة وهو لا يدري شيئاً عن وجهته وعن ماذا سيبحث وهو في تلك الحالة الصحية التي يرثى لها. هل هو الجوع، ام الرغبة الدفينة في التحرر والتمتع بشعور حرية الحركة بدون مرافق؟ هل هو الحنين للحياة العادية ورؤية الناس وسماع اصوات الحياة اليومية؟ ولأنه لم يأكل شيئاً منذ فجر هذا اليوم الذي بدأ بوجبة افطار دسمة وساخنة في السجن بدأت بالضرب وأنتهت بالبصق على وجهه، قرر أن يشتري شيئاً يأكله ويسد به رمقه حتى يتمكن من تحمل رحلة العودة الى بيته. ليس زاد الرحلة هو كل ما يريده.. لا.. امراجع يريد أن يشتري أشياء أخرى. ربما هدية للوالدة ولأخوته الصغار الذين تركهم في عيد الفطر الماضي بدون ملابس جديدة للعيد وبدون فرحة العيد؟
وعاد بعضا من صوت العقل ليطرق جمجمة الدكتور البائسة: " أنا طالع من الحبس مش جاي من الحج او من بلاد برّه.. ما فيش داعي للهدايا توّا.. هما دينارين بس.. غير انشاء الله يسدّن.."
شحوب وجهه المريع وارتباك خطواته بسبب صعوبة السيطرة على توازنه والآلام التي يعانيها، جعلته يبدو وكأنه جسداً ميتاً او شبحاً تحركه معجزة. أعتقد الكثيرين من المارة انه تحت تأثير مخدر او مريضا هرب لتوه من مستشفى ردئ. لاحظ الدكتور امراجع فضول المارة ومتابعة البعض لتحركاته في الشارع، لكنه واصل مشواره مبتسما في السر ومتمتماً "لا يهم.. لا أحد منهم يعرفني.. ليعتقدوا أنني مجنون كما يشاؤن.. لا يهم، فهنا لا يعرفني أحد ولا أعرف أحد ولم امارس عيبا.. فقط أريد أن أصرخ في وجوههم أنني أحبهم وأحب الانتماء اليهم.. لكنني لن أفعل.. فبالتأكيد سيصدقون أنني مجنون لو فعلت ذلك..
كيف يقول الليبي لليبي آخر بأنه يحبه؟ كيف يقول الأب لأبنه بأنه يحبه؟ كيف يقول الليبي لزوجته أنه يحبها؟ أنا أحبك؟ أنتِ عزيزة عليا؟ أنت غاليه هلبه؟ واجد؟ الأعمال بالنيات.. اللي في القلب في القلب؟ مش مهم لا أحد يعرفني هنا ولن أعلن لهم حبي.. نحن شعب مستعد للعيش بدون الحاجة لهكذا كماليات! هل أصبت بالحمي لأهذي بهذه الطريقة؟ من الحب ما قتل. قد ابدوا مريضا او شحاذا او صائعا وجائع ومسطول، فكل ذلك لا يهم.. سأشتري زجاجة ماء وساندوتش بالتونه او بالكبدة بدون فلفل وهريسة ثم أرجع لسيارة الأجرة.. لا لا، سأطلب ساندوتش بالجبنة ان وافق صاحب الكشك على صنع ذلك، فذلك أفضل لهذة المعدة المتعبة. لكنني ربما سأحتاج لأكثر من دينارين أهداهما لي العم منصور في صمت وفي خجل.. ولازلت اريد شراء كيلو بن مطحون ورداء حرير لأمي وفانيليا للشايب وسروال وكندره لمحمد وقفطان لعيشه وسوريه لسيف وسبيدرو لخميس وجاكيته لسالم وكل راسمالي جنيهين! جنيهين بس في جيب دكتور ليبي في عاصمة دولة بترولية؟؟!!
فجأة خطرت على بال الدكتور امراجع فكرة ساهمت في تزايد سرعة وعدد دقات قلبه، والحاجة ام الاختراع كما يقولون: "التسول! نعم سأتسول..سأشحت! هنا لا يعرفني أحد.. مبادئ وأشياء كثيرة لم يعد لها معنى في حياتي ولا تستحق الاهتمام.. سأتسول وسأطرق الأبواب لأقول لله يا محسنين! اطعموني يا ليبيين! أنقذوني فأنا منكم واليكم! لقد فاق عدد المتسولين الليبيين في "عصر الجماهير الثوري" عدد المتسولين الليبيين في العهد الملكي، ولن أكون المتسول الليبي الأول او الأخير في هذا الزمن الثوري الردئ.. كن معي يا الله.. لا تتركني وحيدا!
فجأة خطرت على بال الدكتور امراجع فكرة ساهمت في تزايد سرعة وعدد دقات قلبه، والحاجة ام الاختراع كما يقولون: "التسول! نعم سأتسول.. سأشحت! هنا لا يعرفني أحد..
مبادئ وأشياء كثيرة لم يعد لها معنى في حياتي ولا تستحق الاهتمام.. سأتسول وسأطرق الأبواب لأقول لله يا محسنين! اطعموني يا ليبيين! أنقذوني فأنا منكم واليكم! لقد فاق عدد المتسولين الليبيين في "عصر الجماهير الثوري" عدد المتسولين الليبيين في العهد الملكي، ولن أكون المتسول الليبي الأول او الأخير في هذا الزمن الثوري الردئ.. كن معي يا الله.. لا تتركني وحيدا.. سأحب هذه المدينة من بعيد ولن أزورها بعد اليوم.. لا لا.. فالذنب ليس ذنب طرابلس. بالتأكيد سأتحصل على دينارين او ثلاثة وربما خمسة. لن أتمكن من شراء كل ما وعدت بشرائه العيد الماضي، ولكنني على الأقل سأتمكن من شراء بعض البن المطحون لأمي فهي تحب تقديم القهوة لضيوفنا. سأدخل الى هذا المحل وسأشرح لصاحبه قصتي بكل صدق وسأطلب مساعدته. سأخبره بالحقيقة ولا يوجد أفضل من الصدق والحقيقة ويجب علي الاسراع بالعودة لسيارة الأجرة. لا لن أدخل هذا المحل لأنه يعج بالزبائن.. ماذا عن هذا المحل؟ لا لا.. البائع مشغول في "هدرزه" مع زبونة.. يا حوستك يا امراجع! سأجرب هذا المحل.. تشاركية الأمانة للأدوات المنزلية..حسناً!
بسبب عشق الليبيون لكلمة "الأمانة"، ستجد محلا واحداً أو شركة واحدة على الأقل تحمل اسم "الأمانة" في كل قرية ومدينة ليبية..محلات الامانة.. حلاق الامانة.. مقهى الأمانة.. هدايا الامانة.. عطور الامانة.. ترزي الامانة.. بهارات الامانة.. مكتب الامانة لتسجيل العقود.. سنفاز الامانة.. جزارة الامانة.. فندق الامانة.. قوميستا الامانة.. وان لم تجد لا هذا ولا تلك، فبالتأكيد ستجد امانة ما للأمانات كأمانة الخزانة او أمانة العدل او أمانة المؤتمر وأمانة المجلس او ميكروفانات الأمانة!
تشجع الدكتور امراجع ودخل الى محل تشاركية الامانة للمواد المنزلية. بالمحل يوجد زبونا واحدا يقوم على خدمته عامل يتضح من لهجته أنه مصري الجنسية، وبركن منزوي بالمحل يجلس بعض الليبيين يرتشفون كؤوس الشاهي "المربرب" ويمارسون هواية "طرالها جرالها" الشعبية المفضلة والتي تعني "الدفع بالرأي الوحيد في الاتجاه الوحيد".
امراجع: السلام عليكم.
الجماعة: وعليك السلام والرحمة.
الحاج الطاهر (صاحب المحل): تفضل يا أخ، أي خدمة؟
امراجع: زاد فضلك.. والله يا حاج بصراحة مش عارف كيف انخش في الموضوع.. هو انا كان.. كنت.. قصدي يعني محتاج منكم خدمة وجميل.. وقصدتكم.. نبّي مساعدة منكم.. قصدي يعني..هو انا.
الحاج سعد: ارزم!
الحاج الطاهر: شني اتدوّر في بضاعة معينة ومش لاقيها والا كيف؟ لكن كانك تنشد على عمل راهو الله غالب خدمة ما فيش.
امراجع: لا لا.. قصدي.. مش عارف كيف نشرحلكم الموضوع.. أصلي والله العظيم متحشم في الموضوع ومش ساهل عليا ان..
فتحي: اسمع يا أخ! انت الباين عليك دوّتك بالهون وباين عليك ضاربها حشيش والا بلي ثاني، ترا فكّنا من دوتك وخللينا في حالنا.
امراجع: لا والله العظيم لا يا سي الحاج.. والله ما صارت.
الحاج سعد: ارزم!
الحاج خليفة: اسكت يا فتحي.. اسكتوا كلكم وخلّو الراجل يكمّل كلامه يا سبحان الله.. عليك ستين آمان تفضل تكلم.
فتحي: هذا الباين عليه داير عركه وشامم بودره.. فكونا من دوّته.. بالك حتى الشرطة اتدور فيه توا.. هذا يجيبلنا الشبهات ويبهدلونا في جرته.
الحاج خليفة: اسكت يا نكبة وخللي الراجل يتكلم.
الحاج سعد: ارزم!
امراجع: والله انا العبد لله اسمي امراجع.. وهادي بطاقتي واقسم بالله العظيم يا جماعة الخير ما نكذب عليكم.. انا كيف طالع من السجن من ساعتين او ثلاثة فاتن.. والتهمة كانت تهمة سياسية وطلعت براءة والحمد لله ومروّح لأهلي في جيهة بنغازي اليوم انشاء الله.. وحشاكم ليا عام وأنا مريض ومن غير دوا وجعان وما عنديش حتى بيش ناكل.. انا دخيلكم ساعدوني واستروني الله يستركم.. وبالمفقوش لله يا محسنين! والله هادي بطاقتي فيها اسمي.. ومستعد نبعثلكم الفلوس ونرجّع لكم فلوسكم لو تسلفوني حتى خمسة جنيهات.. ساعدوني واوقفو معاي الله يستركم ويكثر من امثالكم.
الحاج سعد: ارزم! تهمة سياسية؟ ترا ورّينا عرض كتافك تربح وفكنا من شرك خيرلك راهو.
فتحي: ايواه ايواه ايواه. اسمع يا أخ! احنا هالكلام هذا ما يفوتش علينا.
الحاج الطاهر: اسمع يا خوي، هذا محل تجاري محترم والجامع آهو قريّب من هنا ومش بعيد.. امشي اوقف قدام الجامع وقول لله يا محسنين.
فتحي: عليك دق شين! توّا جاينا هنا يا خمّارجي تحسابنا فروخ صغيرين وبتفوّت علينا كاراطونك وطروحك.. قاللي جعان قال.. قول انك اتدوّر في حق بودره او تاكيلا يا زوفري.. خزيه عليك.. حتى الشهر الكريم مازال عليه يومين او ثلاثة بس وانت قاعد اتدوّر في الدوخه.
امراجع: لا والله لا يا سي الحاج.. بالله عليك ما تزيدش عليا جروحي يرحم والديك.. لا يا حاج ارجوك.
الحاج خليفة: لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم! يا جماعة الخير خلّونا نسمعو الحكاية ونوزنو الميضوع.. الراجل باين عليه..
الحاج سعد مقاطعا: باين عليه مزقلّيف وعسكرسوسه.
الحاج الطاهر: لا تفكير في الموضوع ولا دوّه فاضيه.. هيا هيا يا أخ اطلع برّه.. خلّينا نشوفو مصالحنا رانا مش فاضيين.. يفتح عليك الله.. ربي يحن.. يلا يلا شوفلك مكان ثاني وناس ثانيه تضحك عليهم.
الحاج خليفة: لا لا يا فتحي.. استنى شويه.. تراهو عيب هكي يا جماعه.
الحاج سعد: ارزم! خلّيه يلزّه خير.
أشار الحاج الطاهر صاحب تشاركية الأمانة باتجاه باب المحل مصراً على ضرورة أن يغادر امراجع المكان وبأسرع ما يمكن. كان امراجع يتصبب عرقا وفي حالة نفسية وبدنية يرثى لها، حتى أنه أقنع نفسه بأن المنقذ الوحيد له من هذا الموقف المخجل والصعب هو الهروب من هذا المكان.. ويا حبذا لو في ثانية واحدة من عمر هذا الزمن الردئ تفتح الأرض جوفها وتبتلعه.
امراجع: باهي.. سامحوني يا جماعة.. انا آسف نستاهل.. نشهد بالله اني نستاهل.. الحق مش فيكم.. انا الغلطان..آنستو بعضكم.. يا فضيحتك يا امراجع.. شن درت يا امراجع.. شن درت يا مهبول؟
الحاج الطاهر: الله يانسك.. يللا يللا ربي ايحن.
خرج امراجع الي الشارع الذي استقبله بضجيجه. عيناه مفتوحتان لكنه لا يرى. قلبه يبكي.. كيانه يبكي، وبحلقه غصة مرة الطعم لم تتمكن نوبة سعال مجنونة من طردها.
"كيت لهم قصتي بصدق وبصراحة.. البعض غلبه الفضول والبعض الآخر خاف من سماع قصتي.. البعض شتم والبعض الآخر استهزاء بمعاناتي ولم يصدقني. لا يدرون كم احتجت من شجاعة لأفعل ما فعلت.. ها أنا أبيع بقايا كرامتي من أجل زاد رحلة العودة الى بيتي. ماذا تخبئين لي يا دنيا بعد؟ هل جئت أبيع الصدق لمن لا يحتاجه؟ هل جئتهم أطالب بنصيبي من "فزعة" ليبية أصيلة من مخزن خاوي او من العنوان الخطاء؟ هل جئت أطلب الرحمة ممن لا يملكوها؟ أم أنني جئت أبيع "العجاج" في سوق العجاج؟ أنا ابن هذة الأرض الطيبة وهذا الشعب الطيب.. لا يهم من أكون.. ما أهمية أسمي الى جوار اسم ليبيا؟ لن ألومكم بني وطني.. لكم الله.. لنا الله.. لن اسأل أحد آخر.. لا يعرف مذلة التسول الا من ارغمته العازه بالفعل على ذلك.
يا الله كم انا متعب. لأجلس قليلا وأرتاح قبل ان اعود لسيارة الأجرة. يا للفضيحة ويا للعار! ماذا فعلت يا امراجع؟
وجد امراجع بعض الصناديق الخشبية الفارغة ملقاة على الرصيف بجوار أحد الأكشاك القريبة من "تشاركية الأمانة"، وجلس ليستريح قليلا وليفيق من صدمة مغامرة اقدامه على التسول. وضع كيسه الذي تحصل عليه من العم منصور الى جواره، ثم أغمض عيناه ليغيب في عالم مجهول.
داخل تشاركية الأمانة، وبعد خروج امراجع منها، بدأ الحجاج خليفة والطاهر وسعد ومعهم فتحي يضربون الأخماس في الأسداس، وأجتهدوا في تحليل الموقف الذي جرى أمامهم من دقائق مضت.
الحاج الطاهر: كثرو الشحاتين يا سي.. قريب حتى ايديرولهم نقابة أو اتحاد او جمعية.
الحاج خليفة: الاتحاد موجود!
الحاج سعد: ارزم!
فتحي: هادا تلاقيه واحد هلفوت ومجرم ومدمن وممكن حتى هارب من الحبس.. انظني ايدوّر في حق سكره اللهم احفظنا.. هادا مكانه في الضويقه مش قاعد مطلوق يحشّم فينا قدام الناس.
الحاج خليفة: لا حول ولا قوة الا بالله.. يا جماعة الخير انا عندي رأي ثاني في الموضوع.. الشفاعة يا رسوله.. غير فكرو معاي شويه.. توّا كلكم هجمتو عليه ونزلتو فيه للباط.. اللي قال هادا سكّار واللي قال هذا هارب من الحبس ومدمن.. يا ناس حرام عليكم خلّو عندكم شوية عقل وتفكير.. بالله عليكم وشهادة من دينكم، أمتى خش عليكم ليبي وقاللكم لله يا محسنين بهالطريقة؟ أمتى خش عليكم ليبي وقاللكم انه كيف طالع من الحبس وما عنداش بيش ياكل؟ فيه ليبي تكلم عن تهمة سياسية من قبل؟ انا اللي نبّي انقوله انه عندي احساس ان هالمسكين هذا مش كذّاب ولا هو محشش وباين عليه ولد ناس.. من وجهه باين عليه انه مريض وقريب يموت بالشر الشفاعة يا رسول الله! على الاقل شريناله ما ياكل.. حتى الصيام مازال عليه ثلاثة ايام يا سبحان الله. يا سيدي نعتبروها صدقة لوجه الله.. حاله وخلاص.. وين فزعة الناس لبعضها؟ هذا ولد بلادنا الشفاعة يا رسول الله
الحاج سعد: ارزم! هذا كلام التريس المزبوط.. والله كلامك يا حاج خليفة ماعندي فيه ما نلوّح.
فتحي: عندك حق والله.. يا شينك حشمه وخلاص!
الحاج الطاهر: حتى انا والله شكّيت انه كيف يعني واحد زيّه وباين عليه متعلم ويجي يوهّب ويشحت في الشارع؟ معقولة؟ الله ينوّر عليك يا حاج خليفة.
الحاج خليفة: هيا كل واحد منكم يوتّي خمسة دينار او اللي يقدر عليه.. آهو انا مني عشرة دينارات.. خلّي توّا أنا نمشي نلحقه وانجيبه هنا.. أكيد ما تباعدش من الجلواه مازال.. بيش ما فيش حد ايقول ان التريس ماتت.
الحاج الطاهر: لا والله ما صارت.. خلّيك انت مستريح، عاد عيب علينا يا حاج خليفة. يا ممدوح! يا ممدوح.. تعالى هني.
ممدوح: ايوا يا بيه.
الحاج الطاهر: انت شفت الراجل اللي بكري كان هنا؟
ممدوح: الراجل الشحات؟ ايوا يا بيه.. آه شفته.
الحاج الطاهر: انت شفت الراجل اللي بكري كان هنا؟
ممدوح: الراجل الشحات؟ ايوا يا بيه..آه شفته.
الحاج الطاهر: استغفر الله العظيم.. مش شحات.. روح الحقه وقوله يرجع هنا.. جيبه معاك بسرعة.
ممدوح: حاجيبوه من تحت طقاطيق الارض يا بيه.
الحاج خليفة: اجري يا منجوه الحقه قبل ما يضيع في الزحمه.. فيسع فيسع.
جلس امراجع وأغمض عينيه من شدة الآلام التي احتلت جسده المتهالك وبسبب توابع مغامرة التسول التي أقدم عليها. لا يدري كيف ولماذا هاجمته ذكريات أيام الدراسة في النمسا. ها هو في رحلة نهاية الاسبوع مع بعض زملاء الدراسة من جنسيات مختلفة باحدى الغابات يساعدهم في صنع اسياخ الكباب استعدادا لشيّها على نار جمرات الفحم الملتهبة أمام خيمهم المنصوبة الى جوار بعضها. وها هو يتمرغ فوق بساط العشب الاخضر ماسكا بطنه بكلتا يديه للتخفيف من حدة الألم الناتج من كثرة الضحك والجو المرح الذي كان يرافقهم في رحلاتهم. وهنا نجده يصف بلاده ليبيا وجمالها لأصدقائه، والجميع ملتف حول نار المخيم يصغون له باعجاب وتقدير.
فجأة قطع صوت أحد البائعين حبل أفكار امراجع.
البائع: يا أستاذ.. يا أخينا.. قوم بقى شوفلك حته ثانيه تقعد فيها.. ده الصندوق بتاعي ودي الطرابيزه بتاعتي.. قوم بقي.. ايه انت مالك؟ مش سامعني؟ ده انت شكلك مخروم ومضروب بستين نيله.. روح شوفلك داكتور او حاجه تفوقك.
امراجع: هذا صندوقك؟
البائع: ايواه.. قوم بقى يا أخي خلّينا نشوفو مصالحنا..الله؟ ايه البقاحة دي؟
ابتعد امراجع قليلا عن مكان البائع الذي يتخذ من بعض الصناديق الخشبية مسطحا لعرض بضاعته من صابون وفرش للشعر وبعض العطور الرخيصة وأدوات الحلاقة. جلس امراجع فوق صفيحة طلاء فارغة عليها صورة البطريق بجوار حافة الرصيف وبالقرب من صندوق كبير عليه بعض أكياس البهارات والأعشاب المجففة. ولم تمضي عدة ثواني على ركون امراجع لهذا المكان، حتى صاح به البائع مرة أخرى.
البائع: ما تقعدش هناك كمان!
امراجع: وليه؟ انت كنّك؟ مسلّطينك عليا والا كيف؟ والا حضرتك شيخ البلد او العمدة؟
البائع: اللهم طولك يا روح.. ده انا خايف عليك يا ابني.. اصل المكان اللي انت فيه ده، ده بتاع الواد ادوارد.. من نيجيريا او من غانا الباين.. آه.. دي الحته بتاعته وده المحل بتاعو ولو لقاك في مطرحو حيديك بالبونية على قفاك وعلى نافوخك على طول وأنت مش ناقص بهدله.. آديني قلت لك.. ما ليش دعوا بقى.. ده حيبهدلك.. أصل دول ما عندهمش يمه أرحميني..بالمطوي والسكين على طول.. روح شوف لك حته ثانية احسنلك.. ده انت الباين عليك هلكان من مجاميعو.
امراجع: هاضاك مكانك وهاضا مكان النيجيري او الغاني، والليبي وين يقعمز؟ بالله ما تعرفش وين صندوق الليبي؟
البائع: الله! وانا مالي يا أخي.. هي دي مشكلتي؟ ايغور لأي حته بقى.. روح اسال اللجنة بتاعتك بقي.. ده ايه البلاوي اللي بتترمي علينا دي.
التفت البائع الى أحدي السيدات العابرات، وحاول اغرائها بشراء شيئا من بضاعته: ايواه يا اموره ايوا.. ايواه يا قمر.. ايواه يا حاجه تعالي بصي وشوفي الحاجات الحلوه.. مش لازم تشتري ياحاجه.. اتفرجي ببلاش يا حاجه.. اللهم صلي عالنبي.. ايه الوش الحلو ده اللي زي القمر.. فرجيني وافرجك يا عسل.. خش خش يا توفيق من هناك.. ما تسيبهاش تفلت منك.. اوعي تسيبها تروح للواد التونسي.
ولم تستغرق رحلة بحث ممدوح عن الدكتور امراجع طويلا، فلقد وجده بالقرب من محل تشاركية الأمانة يهم بالنهوض تاركا الباعة الأجانب المسيطرين على الشوارع والأرصفة الليبية في حالهم. أبلغ ممدوح الدكتور امراجع بطلب الحاج الطاهر ورفاقه، وطلب منه ان يتبعه الى التشاركية. تردد امراجع في قبول الدعوة بسبب ما سمع منهم في زيارته الاولى لهم، ولكنه في آخر المطاف وبعد الحاح ممدوح عليه، وافق على مضض.
بسبب كل ما جرى لهذا المسكين، ومن جرأ الطعنات التي تلقاها وتدهور حالته الصحية بدنيا ونفسياً، اصبحت افكاره مشتتة وبدأت قدرته على التركيز ضعيفة وتنقصه الرغبة في المضي الى الامام. مشي الدكتور امراجع وراء مرافقه ممدوح مسلوب الارادة ومشتت الافكار، مما جعله ينسى الكيس الأزرق الذي يحتوي على زجاجة ماء، عصير اليوقا وبعض البسكويت الذي اعطاه له العم منصور.
لماذا طلبوا مني العودة لمقابلتهم؟ يريدون استجوابي او التشمت بي من جديد؟ ام هل هذه هي صحوة الضمير الليبي الذي أعرف أنه لايزال حياً، ولن تستطيع اجهزة غسيل الدماغ القمعية الثورية من القضاء عليه.
دخل امراجع الى تشاركية الأمانة من جديد، رحبت شلة التشاركية به، وبعد اعتذار ليبي موجز وسريع من طرف المجموعة الحاضرة، سلموه اربعون دينارا متمنين له التوفيق. وطلبوا من امراجع أن يجلس معهم لبعض الوقت وليشرب معهم كأس شاي ترد له الروح كما قالوا، لكن امراجع شكرهم بصوت متوتر يشوبه الخجل والامتنان.
امراجع: الله يبارك فيكم يا جماعة.. الله ايدوم عليكم الصحة وربي انشاء الله يكثر من امثالكم.. حتعرفوا في يوم من الايام اني ما ضحكتش عليكم واني ولد ناس طيبة ونستاهل جميلكم ومعروفكم وانشاء الله ربي يقدّرني على خدمتكم ورد جميلكم.. الله يفتح عليكم انشاء الله.. وسامحوني في طويسة الشاهي راهي بطني ما تقدرش عليه وبالهنا والشفا.. واسمحولي راهو سواق التاكسي قاعد ايراجي فيا وبنحاول نشري شوية بن للوالدة قبل ما نركب التاكسي.
الحاج سعد: ارزم. هادا واجب يا سي امراجع مش جميل.. الناس لبعضها راهو.
الحاج خليفة: ربنا يسهلّك انشاء الله.. زينه يا ولدي ومربوحه انشاء الله.. الله يحفظك من فروخ الحرام.
فتحي: اللي لا ينامو ولا يخلو من ينام.. بالسلامة يا امراجع ورد بالك من روحك.
امراجع: هيا بالسلامة يا جماعة الخير.. بارك الله فيكم مرة ثانية ورمضان كريم وانشاء الله بعوده.
الحاج الطاهر صاحب التشاركية: استنى يا امراجع دقيقة.. على ذكر القهوة.. آهو خوذ معاك طاقم الفناجين هادا هدية للوالدة..الله يباركلك في الحاجّه وتذكرنا عاد كلما تشرب فنيجين قهوة باهي من ايدين العزوز.
امراجع: ليه عليك يا سي الحاج؟ ما فيش داعي والله.. انا توّا معاي فلوس وتوّا.. كثر خيرك يا عمي الحاج.. وبعد خطرها هادي بطاقتي الشخصية فيها اسمي ورقمها و...
الحاج سعد: ارزم! شني بنكحلو بيها بطاقتك؟ يا ودي خوذ باكو الفلاجين والحق روحك قبلما التاكسيستي يرخي بيك الحبل وتقعد حببي.
امراجع: الله يبارك فيكم.. هيا بالسلامة ياجماعة.. الله يرحم والديكم.. الله يبارك فيكم.
لس من السهل التعامل مع تناقض المشاعر تجاه شخص او موضوع او حدث ما. حوادث تتكرر وأمور جديدة تظهر وتأخذ مجراها في حياة الانسان. بعضاً منها لا نعيره اي اهتمام، وبعضها يهز كياننا بقوة وبدون استئذان. بعض تلك الاشياء والاحداث يعجز حتى الانسان المنطقي والعاقل على تفهمها، وان فهمها فقد لا يستسيغها. هذا جزء بسيط مما كان يدور داخل جمجمة امراجع المزدحمة بالكثير من الأفكار والأسئلة التي تبحث عن اجابة.. مثل سؤال: هل يمكن أن ينسى التاريخ كيف حال الليبيين؟
شتّان بين ما شعر به بعد الزيارة الاولى للتشاركية، وبين ما يشعر به الآن. انشرحت أساريره قليلا وعاوده التفاؤل والايمان بوجود الخير والطيبة والشهامة في هذا البلد وسكانه. ومن فهم شخصية امراجع، سيجد أن السبب الرئيسي وراء "زهوة بال" امراجع هذه المرة، ليس المبلغ المالي البسيط الذي تبرعت به شلة تشاركية الامانة، لكنه الشعور بالفرحة لمعرفة أن سنين القحط والتشريد الفكري والاجتماعي والثقافي وبرامج غسيل الادمغة للجماجم الليبية التي نظّرت لها وفرضتها -بقوة الكلاشنكوف- الادمغة الثورية المتكلسة، لم ولن تتمكن كل تلك البرامج الثورية من الاستيلاء على مساحات الفكر الليبي الأصيل.. وأثبتت الأيام انه لم يعد للثورة ولأبواقها ما تعطيه، والسبب ببساطة يكمن في مقولة "فاقد الشئ لا يعطيه".
قرر امراجع الاسراع في العودة الى موقف سيارات الأجرة، ليطمئن على وجود السيارة التي ستقله الى بنغازي. توقف في طريقه بمحل مطحن كينيا للقهوة (البرازيل سابقاً) وأشتري بعضا من البن المطحون لتوه. وبعد جهد جهيد وصل امراجع لموقف السيارات ليكتشف أن سيارة الأجرة قد غادرت طرابلس بدونه.
امراجع لسائق سيارة أجرة: بعد اذنك يا أخ، التاكسي اللي كانت هنا، انشاء الله غير ما يكونو اسقّدو من غيري وسابوني هنا؟
السائق: آآه.. كرهبة سي مختار.. اسقّدو من بدري.. تلاقيهم حتى قريب يوصلو لتاجوراء.. وانت وين كنت رايح يا بن عمي؟ مختار نشد عليك وقعد يراجي فيك واجد وبعدين توكل واسقّد في حاله وين تعبّت سيارته.. مش انت اللي كنت ناوي تمشي معاهم والا لا؟
امراجع: ايوا ايوا.. لكن صارتلي شوية ظروف هكي وتأخرت شويه.. عليك حاله وخلاص.. وكيف الدباره توّا يا بوصاحب؟
السائق: كل تأخيره وفيها خيره..ع لى العموم خلّيك معاي هنا.. انا اللي عليا الدور لبنغازي.. وانشاء الله تسقّد معانا.. قمعز في السيارة وخلليها على الله.. وعلى فكرة راهو سي مختار السواق اللي توكل لبنغازي ولد ناس وأمين وعطاني حق توصيلتك.
امراجع: الله يبارك فيك وفيه.. الدنيا مازالت بخير.. الحمد لله.. يلا على قولتك، كل تأخيره وفيها خيره.
وفجأة تذكر امراجع انه نسى كيسه الازرق الذي يضم هدية العم منصور له بجوار صناديق الباعة المتجولين، وقرر الذهاب لاحضاره.
امراجع للسائق: وووه عليا.. سامحني يا بو صاحب.. انا نسيت كيس فيه شوية حاجات في جنب هاضاك الكشك.. انطق فيه انجيبه ونجيك.. على رحمة والديك استناني.. اهو المكان قريب من هنا..
السائق: لا حول الله.. والله انا من رأيي اتخليك هنا خير يا راجل.. باهي باهي لكن رد بالك تغيب واجد.. حتى احنا قريب نسقّدو رانا.
امراجع: باهي باهي.. راجعلك بسرعة..انشاء الله.
السائق: لا حول الله.. والله انا من رأيي اتخليك هنا خير يا راجل.. باهي باهي لكن رد بالك تغيب واجد.. حتى احنا قريب نسقّدو رانا.
امراجع: باهي باهي.. راجعلك بسرعة انشاء الله.. ارجاني الله يربّحك.
السائق: راهو هالكرهبه هاضي آخر وحده لبنغازي اليوم.. العرب شاطت فيها نار رمضان حتى قبل الصيام وكل واحد ايريد ايكون مع عويله قبل الموسم.. خف روحك شويه وكل سنة وانت طيب.
امراجع: وانت طيب.. اتعيش يا بوصاحب.
السائق: على اية حال عندك نص ساعة وبعدها والله ما نقدر انراجيك.. وما نقدر نعطيك كلمة.
امراجع: راجعلك بسرعة.. خمسة دقايق بالكثير.. ارجاني الله ايربّحك.
بالرغم من حالته الصحية المزرية التي لاحظ ترديها عابري السبيل كذلك، الا أن امراجع حاول الاسراع باتجاه المكان الذي نسى فيه الكيس الأزرق هدية العم منصور، بالقرب من صناديق ادوارد للبهارات والأعشاب الافريقية المجففة. اقترب امراجع من المكان وحيا البائع الأفريقي الواقف وراء منضدة عرض البضائع، ثم بدأ في السؤال عن كيسه الذي نساه هناك.
امراجع: انا نسيت كيس هنا من قبل شويه.. ايوا ايوا اهوا الكيس هضاك اللي في جنب صندوقك.. هذا هو.. معليش ما تواخذنيش انا دايخ ومريض شويه ونسيته الكيس هنا.. هاته جاي، ترا اعطيني الكيس امتاعي من فضلك.
ادوارد: لا. لا. نو. نو. امسي (يقصد امشي).. انت امسي.
امراجع: كيف؟ تهات الكيس وخلّيني نمشي في حالي الله يهدك.
ادوارد: انا فيه قول لا. انت امسي. قيت لوست.. انت فيه بادين موسكله.
امراجع: انت اللي قيت لوست يا حقير.. انا في بلادي.. الله يعطيك انت مشكله تهد حيلك.. تهات الشكاره هنا يلعن لايام السودا.
ادوارد: سودا؟ انت راسيست.. انت موس (مش) كويس.. اسود وابيض.. انت امسي اهسن.
البائع المصري: استر يا اللي بتستر يارب.. مانا قلتلك يا ابن الحلال.. روح في حالك وسيب الكيس ومش حتندم.
امراجع: اسمع، انا مش ناقص دووه.. اعطيني شكارتي وفكني من مشاكلك.
ادوارد: امسي.. امسي.. انت كريزي.. انت كريزي.
لادوارد كيس امامه تحت المنضدة يشبه الكيس، الذي يبحث عنه امراجع وهو يعرف عن أي كيس يتحدث امراجع.
امراجع يرى كيسا يشبه كيسه وقريبا جدا من المكان الذي استراح به منذ قليل. البائع المتجول ادوارد لا يريد امراجع ان يلمس الكيس، وامراجع لا يريد ان يتنازل عن هدية العم منصور.
حاول امراجع الوصول لمبتغاه بجوار المنضدة، حاملا كيس البن المطحون وصندوقا صغيرا به طاقم الفناجين الذي اهداه له الحاج الطاهر. استمرت المشادة والمناوشة الكلامية بين الاثنين، ثم تحولت الى تشابك بالأيدي. علت أصوات المشاجرة والصياح من كلى الطرفين ومن بعض رفاق ادوارد. تدخل بعض المارة لفك الاشتباك وتهدئة النزاع، لكن امراجع لم يشعر بيد المجرم التي امتدت الى جيبه، لتسرق محفظته وتختطف احلامه بالعودة لبيته.. ولتحرمه من حياته الحقيقية ولو لبعض الوقت من هذا الزمن الشقي.
تعرّف ادوارد من بعيد على شرطيان يرتديان الملابس المدنية، يشقان طريقهما في الزحام باتجاه مركز المشاجرة، ويقتربان منه ومن خصمه.
شرطي: تحوّل انت وهو.. حوّل..يللا.. شني فيه بالزبط؟ شني اللي صار؟ صكّر فمك انت وهو.. اسكت يا ادوارد ما تتكلمش.. تكلم انت.. شني المشكلة؟
امراجع: الحمد لله اللي جيتو.. والله انا كنت امقعمز هنا قبل شويه وكان المكان فاضي ونسيت فيه كيس صغير فيه شيشة اميّه وباشكوط والنيجيري هذا ما يبيش يردهوم ليا.
الشرطي: هذا مش نيجيري هذا غاني.. كل هالعركه على خاطر باكو بشكوتي؟ زنازه كبيره والميت فار.. وين الكيس اللي تحكي عليه؟
وأعطى ادوارد كيسا آخراً للشرطي غير الكيس الذي كان يبحث عنه امراجع.
الشرطي: هادي شكارتك اللي اتدوّر عليها والا لا؟
امراجع: ايوا.. ايوا يا أفندي.. الله يبارك فيك هي هادي.. فيها شيشة اميّه وشيشة يوقا وباكو..
الشرطي: انت متأكد؟ بالك غلطان؟
امراجع: نعم.. ايوا متأكد.
الشرطي: خيرك هكي متلخبط ومش على بعضك؟ شني شارب؟ ترا وين بطاقتك؟ شني اسمك.. طلّع طلّع البطاقة.
امراجع: انا دكتور.. انا الدكتور امراجع.. بطاقتي؟ آآه ارجا شويه بس.. حااااضر.. اهى موجوده هنا.. ارجاني شويه على رحمة شيّابك.. يا نهاري لاسواد.. مش لاقيها البطاقه.. ولا لاقي اوراقي ولا التزدان.. حييه عليا حيه.. والتاكسيستي حيرخيني.. سرقو التزدان فروخ الحرام.. امتى تتعلم يا امراجع؟
الشرطي: وما عندكش اوراق! متأكد ان هادي شكارتك؟ انت دوتك مش مزبوطه.
امراجع: والله يا افندي معاد متأكد من حاجه.. سرقوني فروخ الحرام.. ترا افتحها الشكاره.. ورّيني شني فيها وبعدين انقولك.. انا شكارتي فيها اميّه وباشكوط ويوقا.
الشرطي: بعدين تقوللي؟ توّا يبانلك.
وفتح الشرطي الكيس وأخرج منه زجاجة تفوح منها رائحة الكحول المصنّع محليا وحوالي نصف كيلو من مخدر "الحشيش" وأشياء أخرى. كاد امراجع أن يفقد وعيه من الدهشة ووقع الصدمة التي تلقاها فور رؤيته لمحتويات الكيس الذي سلّمه ادوارد للشرطي. الآن فقط فهم امراجع لماذا استمات ادوارد في الدفاع عن ذلك الكيس. الآن فقط فهم لماذا نصحه البائع المصري بالابتعاد عن مكان هذا البائع الأفريقي. ادوارد يتاجر في الممنوعات!
امراجع: لا لا يا أفندي. هذا مش كيسي.. انا دخيلتك.. هاضا متاع هالنيجيري المجرم.. أنا كيسي كان هنا جنب الصندوق وفيه باشكوط ويوقا و.. حتى انشد الأخ المصري اللي هنا.
ألقى امراجع نظرة باتجاه مكان البائع المصري فوجده شاغرا. وحين ألقى امراجع نظرة باتجاه ادوارد، وجده يشرب من زجاجة الماء التي احضرها العم منصور لمراجع وبجوار قدميه على الأرض توجد علبة بسكويت وزجاجة عصير "يوقا" فارغتين.
امراجع: ولد الحرام النيجيري شرب اليوقا.. يا افندي شوف شوف.
ادوارد: انت فيه قول هادا كيس امتاا انت.. خود.. خود كيس، سوري هادا موس (مش) كيس انا ادوارد.. هادا فيه هرام .. انت فيه تاكيلا في كيس.. انت موس موسلمان كويس.
الشرطي موجهاً كلامه الى امراجع: اسمع يا ولد الحرام يا صايع، انت من انت؟ من أمتى وانت تتاجر في الحرام؟ عيب عليك يا حقير.
وبدأ الشرطيان في صفع امراجع.
الشرطي: لعنة الله عليك يا حقير.. خزيه.. تى رمضان مازال عليه ثلاثة ايام بس يا وسخ، وانت قاعد تبيع في الحشيش والتاكيلا في السوق يا حقير. ما تتحشمش على وجهك؟ أكيد عندك سوابق يا فرخ الحرام.. الباين عليك جديد في السوق.. طحت وين تستريح.. ما تتحشمش يا خنزير..خزيه عليك يا كلب.
امراجع: لا لا أنا دكتور.. سوابق؟ لا لا. تاكيلا؟ لا معنديش سوابق..حشيش؟ نهار اسود مش فايت.. لا لا ما عنديش سوابق.. اوراقي ضاعت وحتى فلوسي اللي شاحتهن اليوم راحن.. انا طالع من الحبس اليوم.. خلّيني انفهّمك يا افندي.. أنا مش مجرم يا عالم. راني انظلمت فوق اللزوم. منك لله يا ظالم منك لله. اعطوني فرصة يا ناس لا لا..
الشرطي: اسكت! صكّر خرارتك يا وسخ. كيف؟ كيف؟ تكيف دكتور وشحات وبدون اوراق وماعندكش سوابق لكن طالع من الحبس اليوم وتبيع في المخدرات.. هيا هيا سقّدنا.. يللا معانا عالمركز.. انت الباين عليك دايخ ومودّر بوكل.. اتفووه عليك يا ساقط.
دفع الشرطي امراجع امامه وأهدى ظهره ضربة قوية اطارت كيس البن المطحون وصندوق طاقم الفناجين، اللذين كان امراجع يضمهما الى صدره طوال الوقت. تناثرت أشلاء الفناجين وغبار البن وسط الزحام، وفقد امراجع السيطرة على قواه وما يجري حوله، واستسلم لواقع حزين يرثى له. اهتزت الأرض تحت اقدام امراجع، فسقط المسكين متهالكا لترتطم مؤخرة رأسه بحافة الرصيف أمام صندوق بضاعة ادوارد.
للحظات العمر في حياة الانسان معاني، ولمسار قطرات دماء بعض البشر لا يوجد العنوان مكتوبا على أسفلت اسود، ولا على ذرات رمال متعطشة للغد الأفضل، بل في وريد الوطن. مرت محطات كثيرة من أحداث حياة ومعاناة امراجع المسجلة في دفتر يحتضنه الشيخ العجوز الملقب بالتاريخ، مرت كشريط مصور في مخيلته وفي سرعة هائلة قبل أن يسقط مغشياً عليه ويدخل عالم الغيبوبة.
بجوار رأس امراجع النازف لدماء ليبية بريئة على الرصيف، تابعت قطعة من فنجان مكسور اهتزازها البطئ في حزن. بأسفل تلك القطعة من الفنجان المكسور ظهر ختم المصنع معلنا "صناعة ليبية".
وفي غرفة مستشفى ليبي ردئ جدا، قالت طبيبة بلغارية ان المريض دخل عالم الغيبوبة بسبب الادمان على ممنوعات وسؤ تغذية، وسجلت القضية ضد مجهول!
من سرق محفظة امراجع، بما تحمله تلك المحفظة من بطاقة احزان و "اوراق الجيش" وصدقة تبرع بها الحاج خليفة وشلته، هذا السارق لايزال يذرع شوارع مدينتنا.. يشرب القهوة في مقاهي حوارينا.. ويصلي في مساجدنا.. ويشاركنا الطعام بدون خجل وفي سلام.
من سرق فرحة العيد وأجمل سنين هذا الليبي، من أغرق عيون الليبيات بالدموع وأثقل أكتاف الليبيون بالهموم.. من زرع الحيرة والمذلة في عيون اخوة امراجع، لا يريد أن يتذكر ما حدث. أحداث كثيرة ستقضي مضاجعه.
ويا من تريد زيارة مريضا مجهول الهوية.. فكره محظور ورزقه مجنّب ويعيش في ظلمة الغيبوبة، خذ معك حفنة من تراب ليبي طاهر، وقربها من أنف هذا المغيّب المنسي باحدى الغرف الباردة بمستشفي ليبي متآكل الجدران والعقل لم تفلح الهتافات الثورية في تدفئة أركانه. فهذا الانجاز الثوري "المستشفي" يحتاج لدخول غرفة الطوارئ قبل جلسات مؤتمر الشعب العام القادمة.. وقبل أن يخرج علينا الثوريون برئيس جديد للوزراء يهمه لمعان حذائه ونجاح وزير خارجيته في تلميع صورة "القائد" أكثر من اهتمامه بالسؤال عن ليبي مغيّب. قم بتهريب حفنة من تراب ليبي لهذا الليبي وقربها من أنفه، فلربما تساعده في صحوته من غفوته وتلغي شهادة وفاته التي أصدرتها طبيبة بلغارية عيّنها ليبي ثوري.
لا داعي للتوتر. لاداعي للانفعال. لن تجدوا ازدحاما حول سرير هذا الجندي المجهول.
لدينا التراب ولكن، هل نملك الوقت؟
شكرا علي مروركم[/center]امراجع: يا رب.
بجوار مقعد السائق يجلس راكبان، أحدهم يتصفح مجلة ما والآخر يغط في سبات عميق، امّا بقية المقاعد بالسيارة فهي لا تزال شاغرة.
ارتمى امراجع على المقعد وراء مقعد السائق بوسط السيارة، وحاول أن يخفي أعراض مرضه وألمه عن سائقي سيارات الأجرة الواقفين بجوار السيارة وعن بقية المسافرين. أمامه رحلة طويلة وشاقة، فكيف سيتحملها؟ بدأ يشعر بدوار عنيف وضعف شديد بعد أن التقطت حاسة الشم لديه روائح المأكولات الشعبية الشهية مختلطة بروائح الشاهي والقهوة القادمة من المقاهي والمطاعم الكثيرة التي تحيط بالمحطة. تلك الروائح المسيلة للعاب، طغت على الروائح المنبعثة من براميل القمامة الفائضة بما فيها من قاذورات بالقرب من موقف سيارات الأجرة، وعلى الروائح المنبعثة من بعض دورات المياه الميدانية بجوار جدران قديمة وبيوت متآكلة تجاور المحطة. وتختلط تلك الروائح بأصوات وصياح الباعة والموسيقى وأصوات منبهات السيارات والحافلات وعادمها في ملحمة يومية تخلقها الذروة والازدحام.
قرص الجوع بعنف أحشاء دكتور امراجع، وشعر بالحزن لفقره وخلو محفظته من المال، فقرر أن يحاول اجترار بعضا من صبر أيوب ليبي أصيل لم يتمكن السجّان من مصادرته. هل تعرف كيف يكون الشعور بالجوع في عاصمة بلدك؟ هل تدرك معنى الشعور بالوحدة لدى سجين برئ، مريض وجائع أطلق سراحه، ومنذ ساعات قليلة فقط كان جسده يتلقى الصفعات وروحه تتلقى الاهانات؟ هل تستطيع تخيل معاناة كهذة؟ لا أعتقد!
أغلق دكتور امراجع عيناه وألقى بما تبقى لديه من فكره وخياله الى عالم الهروب من الواقع الحزين وسرح من جديد:" سأصل لبيتي اليوم او غدا.. وسآكل من أيدي الوالدة وأختي.. الله يمسيهم بالخير.. يا الله! ما أطيب رائحة البن المطحون لتوه! بالتأكيد يوجد مطحن للبن قريبا من هنا ومنه تنبعث هذة الرائحة اللذيذة.. من أين لي ببعض المال لأشتري لوالدتي قليلا من هذا البن المخلوط بالحبهان؟ من يعطيني مناديل ورق أمسح بها أحزاني وقطرات دمي الآتية من أعماقي مع كل نوبة سعال مجنونة؟ لا وقت للتفكير في ذلك الآن.. فقط لو أستطيع الوصول الى بنغازي بسرعة.. لن اواصل المشوار الى بيتي وسأبقى عند ابن عمي فرج في بنغازي لأسبوع او أثنين.. فأنا لا أريد عائلتي أن تراني وأنا بهذا الوضع المزري.. آه لو أستطيع الاتصال بفرج.. الله يلعن الكحاحة والدوخة والجوع..".
أفاق امراجع على يد السائق تهزه بقوة..
السائق: هوووه يا أخينا.. يا أستاذ.. بسم الله الرحمن الرحيم.. افطن لروحك.. خيرك انت كنّك لاباس.. العرق يصب منك ووجهك صاير زي الليمة القارصه.. أصحى يا خوي وسمّي بسم الله.. هاك اميّه أشرب شويه وأغسل وجهك.. تخيرك انت لا باس شني قصتك يا راي؟ كانك مستاجع امشي للطبيب انكان لقيت..
امراجع: آه.. ايوا.. باهي اوكي اوكي.. لا ما فيا شي.. ما فيه الا الخير انشاء الله.. هانت خلاص هانت يا بو صاحب.
السائق: وبعدين يا بن عمي راهو الطريق طويلة وانت لا جايب معاك لا وكال ولا شراب.. كيف دوتك انت؟ جيبلك حتى شويشة اميّه تبلل بيها ريقك على الأقل.. رانا باذن الله مانا واقفين الا بعد مصراته.
امراجع: باهي اوكي.. خلليها على الله يا بو صاحب.
وخجل الدكتور امراجع من الاعتراف لسائق سيارة الاجرة بأن محفظته خاوية وأنه لا يملك درهما واحداً.
نزل امراجع من السيارة ليرش بعض الماء على وجهه من الزجاجة التي أعطاها له السائق. فجأة ظهر أمامه العم منصور سائق سيارة النيسان الحكومية التي أوصلته من مكان سجنه الى المحطة.
منصور: لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.. سامحني يا دكتور امراجع.. سامحني يا اوليدي.. العين بصيره واليد قصيره.. الله يكون في عونك يا ولدي.
وضع العم منصور في يد امراجع كيسا صغيرا أزرق اللون به زجاجة ماء، زجاجة عصير "يوقا" وبعض البسكويت، وأسرع ليختفي في الزحام. سيطرت دهشة المفاجأة وحرارة عواطف العم منصور على كيان الدكتور امراجع الذي تسمر في مكانه بالقرب من سيارة الأجرة.
بسط امراجع كف يده اليمنى، فوجد به ديناران تركهما له العم منصور عندما صافحه مودعا على عجل. قاوم الدكتور امراجع الرغبة في البكاء بسبب موقف العم منصور الملئ بالعواطف الحارة والمشاعر الصادقة. وأدرك أن السبب في تأثره بتلك اللفتة الانسانية، يرجع لشعوره بالفرحة.. الفرحة لمعرفة أنه لايزال في هذا البلد ليبيون طيبون وشرفاء وكرماء. فرحته تلك كادت أن تجعله يبكي كالطفل في صدق وبراءة. وتذكر كيف كان دائما يشعر بالفخر بليبيته وانتمائه لهذا الشعب ولهذا التراب.. لكنه تذكر كذلك انه لا يحق للرجل الليبي البكاء علنا، فلم يبكي وحبس دموعه في خزينة للدموع الليبية السرية يعرفها كل ليبي!
صفعات ملازم لن تجعلني أكره بلدي!
ركلات نقيب واهانات رائد وبواب وسجّان لن تنتزع عشقي لشعبي من قلبي!
لن أكره شعبي بسبب ظلمة الحبس الانفرادي.. لن تتمكن شعارات جوفاء وبرامج غسيل الدماغ الثورية من محو حبي لبلدي من قلبي.. الثورية لا تعني الوطنية! كم أحببتك يا ليبيا قبل "الفلقه" وكم أحبك بعدها! سيأتي الغد الأفضل يا ليبيا سيأتي، لكن من سيعوضنا عن ما سرقه الثوريون منا حتى الآن؟
وخطر على بال امراجع الذهاب الى محل قريب ليشتري ما يسمح ديناران دولة نفطية عظمى بشرائه.
امراجع لسائق التاكسي: حنوصل لعند الدكان اللي هنا وجاي.. على رحمة شيّابك ما تسيبنيش هنا.
السائق: باهي لكن ما تتعطلش علينا واجد..رانا قريب نتوكلو.
امراجع: لا لا، بالكثير ربع ساعة.
ترك امراجع سيارة الأجرة وهو لا يدري شيئاً عن وجهته وعن ماذا سيبحث وهو في تلك الحالة الصحية التي يرثى لها. هل هو الجوع، ام الرغبة الدفينة في التحرر والتمتع بشعور حرية الحركة بدون مرافق؟ هل هو الحنين للحياة العادية ورؤية الناس وسماع اصوات الحياة اليومية؟ ولأنه لم يأكل شيئاً منذ فجر هذا اليوم الذي بدأ بوجبة افطار دسمة وساخنة في السجن بدأت بالضرب وأنتهت بالبصق على وجهه، قرر أن يشتري شيئاً يأكله ويسد به رمقه حتى يتمكن من تحمل رحلة العودة الى بيته. ليس زاد الرحلة هو كل ما يريده.. لا.. امراجع يريد أن يشتري أشياء أخرى. ربما هدية للوالدة ولأخوته الصغار الذين تركهم في عيد الفطر الماضي بدون ملابس جديدة للعيد وبدون فرحة العيد؟
وعاد بعضا من صوت العقل ليطرق جمجمة الدكتور البائسة: " أنا طالع من الحبس مش جاي من الحج او من بلاد برّه.. ما فيش داعي للهدايا توّا.. هما دينارين بس.. غير انشاء الله يسدّن.."
شحوب وجهه المريع وارتباك خطواته بسبب صعوبة السيطرة على توازنه والآلام التي يعانيها، جعلته يبدو وكأنه جسداً ميتاً او شبحاً تحركه معجزة. أعتقد الكثيرين من المارة انه تحت تأثير مخدر او مريضا هرب لتوه من مستشفى ردئ. لاحظ الدكتور امراجع فضول المارة ومتابعة البعض لتحركاته في الشارع، لكنه واصل مشواره مبتسما في السر ومتمتماً "لا يهم.. لا أحد منهم يعرفني.. ليعتقدوا أنني مجنون كما يشاؤن.. لا يهم، فهنا لا يعرفني أحد ولا أعرف أحد ولم امارس عيبا.. فقط أريد أن أصرخ في وجوههم أنني أحبهم وأحب الانتماء اليهم.. لكنني لن أفعل.. فبالتأكيد سيصدقون أنني مجنون لو فعلت ذلك..
كيف يقول الليبي لليبي آخر بأنه يحبه؟ كيف يقول الأب لأبنه بأنه يحبه؟ كيف يقول الليبي لزوجته أنه يحبها؟ أنا أحبك؟ أنتِ عزيزة عليا؟ أنت غاليه هلبه؟ واجد؟ الأعمال بالنيات.. اللي في القلب في القلب؟ مش مهم لا أحد يعرفني هنا ولن أعلن لهم حبي.. نحن شعب مستعد للعيش بدون الحاجة لهكذا كماليات! هل أصبت بالحمي لأهذي بهذه الطريقة؟ من الحب ما قتل. قد ابدوا مريضا او شحاذا او صائعا وجائع ومسطول، فكل ذلك لا يهم.. سأشتري زجاجة ماء وساندوتش بالتونه او بالكبدة بدون فلفل وهريسة ثم أرجع لسيارة الأجرة.. لا لا، سأطلب ساندوتش بالجبنة ان وافق صاحب الكشك على صنع ذلك، فذلك أفضل لهذة المعدة المتعبة. لكنني ربما سأحتاج لأكثر من دينارين أهداهما لي العم منصور في صمت وفي خجل.. ولازلت اريد شراء كيلو بن مطحون ورداء حرير لأمي وفانيليا للشايب وسروال وكندره لمحمد وقفطان لعيشه وسوريه لسيف وسبيدرو لخميس وجاكيته لسالم وكل راسمالي جنيهين! جنيهين بس في جيب دكتور ليبي في عاصمة دولة بترولية؟؟!!
فجأة خطرت على بال الدكتور امراجع فكرة ساهمت في تزايد سرعة وعدد دقات قلبه، والحاجة ام الاختراع كما يقولون: "التسول! نعم سأتسول..سأشحت! هنا لا يعرفني أحد.. مبادئ وأشياء كثيرة لم يعد لها معنى في حياتي ولا تستحق الاهتمام.. سأتسول وسأطرق الأبواب لأقول لله يا محسنين! اطعموني يا ليبيين! أنقذوني فأنا منكم واليكم! لقد فاق عدد المتسولين الليبيين في "عصر الجماهير الثوري" عدد المتسولين الليبيين في العهد الملكي، ولن أكون المتسول الليبي الأول او الأخير في هذا الزمن الثوري الردئ.. كن معي يا الله.. لا تتركني وحيدا!
فجأة خطرت على بال الدكتور امراجع فكرة ساهمت في تزايد سرعة وعدد دقات قلبه، والحاجة ام الاختراع كما يقولون: "التسول! نعم سأتسول.. سأشحت! هنا لا يعرفني أحد..
مبادئ وأشياء كثيرة لم يعد لها معنى في حياتي ولا تستحق الاهتمام.. سأتسول وسأطرق الأبواب لأقول لله يا محسنين! اطعموني يا ليبيين! أنقذوني فأنا منكم واليكم! لقد فاق عدد المتسولين الليبيين في "عصر الجماهير الثوري" عدد المتسولين الليبيين في العهد الملكي، ولن أكون المتسول الليبي الأول او الأخير في هذا الزمن الثوري الردئ.. كن معي يا الله.. لا تتركني وحيدا.. سأحب هذه المدينة من بعيد ولن أزورها بعد اليوم.. لا لا.. فالذنب ليس ذنب طرابلس. بالتأكيد سأتحصل على دينارين او ثلاثة وربما خمسة. لن أتمكن من شراء كل ما وعدت بشرائه العيد الماضي، ولكنني على الأقل سأتمكن من شراء بعض البن المطحون لأمي فهي تحب تقديم القهوة لضيوفنا. سأدخل الى هذا المحل وسأشرح لصاحبه قصتي بكل صدق وسأطلب مساعدته. سأخبره بالحقيقة ولا يوجد أفضل من الصدق والحقيقة ويجب علي الاسراع بالعودة لسيارة الأجرة. لا لن أدخل هذا المحل لأنه يعج بالزبائن.. ماذا عن هذا المحل؟ لا لا.. البائع مشغول في "هدرزه" مع زبونة.. يا حوستك يا امراجع! سأجرب هذا المحل.. تشاركية الأمانة للأدوات المنزلية..حسناً!
بسبب عشق الليبيون لكلمة "الأمانة"، ستجد محلا واحداً أو شركة واحدة على الأقل تحمل اسم "الأمانة" في كل قرية ومدينة ليبية..محلات الامانة.. حلاق الامانة.. مقهى الأمانة.. هدايا الامانة.. عطور الامانة.. ترزي الامانة.. بهارات الامانة.. مكتب الامانة لتسجيل العقود.. سنفاز الامانة.. جزارة الامانة.. فندق الامانة.. قوميستا الامانة.. وان لم تجد لا هذا ولا تلك، فبالتأكيد ستجد امانة ما للأمانات كأمانة الخزانة او أمانة العدل او أمانة المؤتمر وأمانة المجلس او ميكروفانات الأمانة!
تشجع الدكتور امراجع ودخل الى محل تشاركية الامانة للمواد المنزلية. بالمحل يوجد زبونا واحدا يقوم على خدمته عامل يتضح من لهجته أنه مصري الجنسية، وبركن منزوي بالمحل يجلس بعض الليبيين يرتشفون كؤوس الشاهي "المربرب" ويمارسون هواية "طرالها جرالها" الشعبية المفضلة والتي تعني "الدفع بالرأي الوحيد في الاتجاه الوحيد".
امراجع: السلام عليكم.
الجماعة: وعليك السلام والرحمة.
الحاج الطاهر (صاحب المحل): تفضل يا أخ، أي خدمة؟
امراجع: زاد فضلك.. والله يا حاج بصراحة مش عارف كيف انخش في الموضوع.. هو انا كان.. كنت.. قصدي يعني محتاج منكم خدمة وجميل.. وقصدتكم.. نبّي مساعدة منكم.. قصدي يعني..هو انا.
الحاج سعد: ارزم!
الحاج الطاهر: شني اتدوّر في بضاعة معينة ومش لاقيها والا كيف؟ لكن كانك تنشد على عمل راهو الله غالب خدمة ما فيش.
امراجع: لا لا.. قصدي.. مش عارف كيف نشرحلكم الموضوع.. أصلي والله العظيم متحشم في الموضوع ومش ساهل عليا ان..
فتحي: اسمع يا أخ! انت الباين عليك دوّتك بالهون وباين عليك ضاربها حشيش والا بلي ثاني، ترا فكّنا من دوتك وخللينا في حالنا.
امراجع: لا والله العظيم لا يا سي الحاج.. والله ما صارت.
الحاج سعد: ارزم!
الحاج خليفة: اسكت يا فتحي.. اسكتوا كلكم وخلّو الراجل يكمّل كلامه يا سبحان الله.. عليك ستين آمان تفضل تكلم.
فتحي: هذا الباين عليه داير عركه وشامم بودره.. فكونا من دوّته.. بالك حتى الشرطة اتدور فيه توا.. هذا يجيبلنا الشبهات ويبهدلونا في جرته.
الحاج خليفة: اسكت يا نكبة وخللي الراجل يتكلم.
الحاج سعد: ارزم!
امراجع: والله انا العبد لله اسمي امراجع.. وهادي بطاقتي واقسم بالله العظيم يا جماعة الخير ما نكذب عليكم.. انا كيف طالع من السجن من ساعتين او ثلاثة فاتن.. والتهمة كانت تهمة سياسية وطلعت براءة والحمد لله ومروّح لأهلي في جيهة بنغازي اليوم انشاء الله.. وحشاكم ليا عام وأنا مريض ومن غير دوا وجعان وما عنديش حتى بيش ناكل.. انا دخيلكم ساعدوني واستروني الله يستركم.. وبالمفقوش لله يا محسنين! والله هادي بطاقتي فيها اسمي.. ومستعد نبعثلكم الفلوس ونرجّع لكم فلوسكم لو تسلفوني حتى خمسة جنيهات.. ساعدوني واوقفو معاي الله يستركم ويكثر من امثالكم.
الحاج سعد: ارزم! تهمة سياسية؟ ترا ورّينا عرض كتافك تربح وفكنا من شرك خيرلك راهو.
فتحي: ايواه ايواه ايواه. اسمع يا أخ! احنا هالكلام هذا ما يفوتش علينا.
الحاج الطاهر: اسمع يا خوي، هذا محل تجاري محترم والجامع آهو قريّب من هنا ومش بعيد.. امشي اوقف قدام الجامع وقول لله يا محسنين.
فتحي: عليك دق شين! توّا جاينا هنا يا خمّارجي تحسابنا فروخ صغيرين وبتفوّت علينا كاراطونك وطروحك.. قاللي جعان قال.. قول انك اتدوّر في حق بودره او تاكيلا يا زوفري.. خزيه عليك.. حتى الشهر الكريم مازال عليه يومين او ثلاثة بس وانت قاعد اتدوّر في الدوخه.
امراجع: لا والله لا يا سي الحاج.. بالله عليك ما تزيدش عليا جروحي يرحم والديك.. لا يا حاج ارجوك.
الحاج خليفة: لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم! يا جماعة الخير خلّونا نسمعو الحكاية ونوزنو الميضوع.. الراجل باين عليه..
الحاج سعد مقاطعا: باين عليه مزقلّيف وعسكرسوسه.
الحاج الطاهر: لا تفكير في الموضوع ولا دوّه فاضيه.. هيا هيا يا أخ اطلع برّه.. خلّينا نشوفو مصالحنا رانا مش فاضيين.. يفتح عليك الله.. ربي يحن.. يلا يلا شوفلك مكان ثاني وناس ثانيه تضحك عليهم.
الحاج خليفة: لا لا يا فتحي.. استنى شويه.. تراهو عيب هكي يا جماعه.
الحاج سعد: ارزم! خلّيه يلزّه خير.
أشار الحاج الطاهر صاحب تشاركية الأمانة باتجاه باب المحل مصراً على ضرورة أن يغادر امراجع المكان وبأسرع ما يمكن. كان امراجع يتصبب عرقا وفي حالة نفسية وبدنية يرثى لها، حتى أنه أقنع نفسه بأن المنقذ الوحيد له من هذا الموقف المخجل والصعب هو الهروب من هذا المكان.. ويا حبذا لو في ثانية واحدة من عمر هذا الزمن الردئ تفتح الأرض جوفها وتبتلعه.
امراجع: باهي.. سامحوني يا جماعة.. انا آسف نستاهل.. نشهد بالله اني نستاهل.. الحق مش فيكم.. انا الغلطان..آنستو بعضكم.. يا فضيحتك يا امراجع.. شن درت يا امراجع.. شن درت يا مهبول؟
الحاج الطاهر: الله يانسك.. يللا يللا ربي ايحن.
خرج امراجع الي الشارع الذي استقبله بضجيجه. عيناه مفتوحتان لكنه لا يرى. قلبه يبكي.. كيانه يبكي، وبحلقه غصة مرة الطعم لم تتمكن نوبة سعال مجنونة من طردها.
"كيت لهم قصتي بصدق وبصراحة.. البعض غلبه الفضول والبعض الآخر خاف من سماع قصتي.. البعض شتم والبعض الآخر استهزاء بمعاناتي ولم يصدقني. لا يدرون كم احتجت من شجاعة لأفعل ما فعلت.. ها أنا أبيع بقايا كرامتي من أجل زاد رحلة العودة الى بيتي. ماذا تخبئين لي يا دنيا بعد؟ هل جئت أبيع الصدق لمن لا يحتاجه؟ هل جئتهم أطالب بنصيبي من "فزعة" ليبية أصيلة من مخزن خاوي او من العنوان الخطاء؟ هل جئت أطلب الرحمة ممن لا يملكوها؟ أم أنني جئت أبيع "العجاج" في سوق العجاج؟ أنا ابن هذة الأرض الطيبة وهذا الشعب الطيب.. لا يهم من أكون.. ما أهمية أسمي الى جوار اسم ليبيا؟ لن ألومكم بني وطني.. لكم الله.. لنا الله.. لن اسأل أحد آخر.. لا يعرف مذلة التسول الا من ارغمته العازه بالفعل على ذلك.
يا الله كم انا متعب. لأجلس قليلا وأرتاح قبل ان اعود لسيارة الأجرة. يا للفضيحة ويا للعار! ماذا فعلت يا امراجع؟
وجد امراجع بعض الصناديق الخشبية الفارغة ملقاة على الرصيف بجوار أحد الأكشاك القريبة من "تشاركية الأمانة"، وجلس ليستريح قليلا وليفيق من صدمة مغامرة اقدامه على التسول. وضع كيسه الذي تحصل عليه من العم منصور الى جواره، ثم أغمض عيناه ليغيب في عالم مجهول.
داخل تشاركية الأمانة، وبعد خروج امراجع منها، بدأ الحجاج خليفة والطاهر وسعد ومعهم فتحي يضربون الأخماس في الأسداس، وأجتهدوا في تحليل الموقف الذي جرى أمامهم من دقائق مضت.
الحاج الطاهر: كثرو الشحاتين يا سي.. قريب حتى ايديرولهم نقابة أو اتحاد او جمعية.
الحاج خليفة: الاتحاد موجود!
الحاج سعد: ارزم!
فتحي: هادا تلاقيه واحد هلفوت ومجرم ومدمن وممكن حتى هارب من الحبس.. انظني ايدوّر في حق سكره اللهم احفظنا.. هادا مكانه في الضويقه مش قاعد مطلوق يحشّم فينا قدام الناس.
الحاج خليفة: لا حول ولا قوة الا بالله.. يا جماعة الخير انا عندي رأي ثاني في الموضوع.. الشفاعة يا رسوله.. غير فكرو معاي شويه.. توّا كلكم هجمتو عليه ونزلتو فيه للباط.. اللي قال هادا سكّار واللي قال هذا هارب من الحبس ومدمن.. يا ناس حرام عليكم خلّو عندكم شوية عقل وتفكير.. بالله عليكم وشهادة من دينكم، أمتى خش عليكم ليبي وقاللكم لله يا محسنين بهالطريقة؟ أمتى خش عليكم ليبي وقاللكم انه كيف طالع من الحبس وما عنداش بيش ياكل؟ فيه ليبي تكلم عن تهمة سياسية من قبل؟ انا اللي نبّي انقوله انه عندي احساس ان هالمسكين هذا مش كذّاب ولا هو محشش وباين عليه ولد ناس.. من وجهه باين عليه انه مريض وقريب يموت بالشر الشفاعة يا رسول الله! على الاقل شريناله ما ياكل.. حتى الصيام مازال عليه ثلاثة ايام يا سبحان الله. يا سيدي نعتبروها صدقة لوجه الله.. حاله وخلاص.. وين فزعة الناس لبعضها؟ هذا ولد بلادنا الشفاعة يا رسول الله
الحاج سعد: ارزم! هذا كلام التريس المزبوط.. والله كلامك يا حاج خليفة ماعندي فيه ما نلوّح.
فتحي: عندك حق والله.. يا شينك حشمه وخلاص!
الحاج الطاهر: حتى انا والله شكّيت انه كيف يعني واحد زيّه وباين عليه متعلم ويجي يوهّب ويشحت في الشارع؟ معقولة؟ الله ينوّر عليك يا حاج خليفة.
الحاج خليفة: هيا كل واحد منكم يوتّي خمسة دينار او اللي يقدر عليه.. آهو انا مني عشرة دينارات.. خلّي توّا أنا نمشي نلحقه وانجيبه هنا.. أكيد ما تباعدش من الجلواه مازال.. بيش ما فيش حد ايقول ان التريس ماتت.
الحاج الطاهر: لا والله ما صارت.. خلّيك انت مستريح، عاد عيب علينا يا حاج خليفة. يا ممدوح! يا ممدوح.. تعالى هني.
ممدوح: ايوا يا بيه.
الحاج الطاهر: انت شفت الراجل اللي بكري كان هنا؟
ممدوح: الراجل الشحات؟ ايوا يا بيه.. آه شفته.
الحاج الطاهر: انت شفت الراجل اللي بكري كان هنا؟
ممدوح: الراجل الشحات؟ ايوا يا بيه..آه شفته.
الحاج الطاهر: استغفر الله العظيم.. مش شحات.. روح الحقه وقوله يرجع هنا.. جيبه معاك بسرعة.
ممدوح: حاجيبوه من تحت طقاطيق الارض يا بيه.
الحاج خليفة: اجري يا منجوه الحقه قبل ما يضيع في الزحمه.. فيسع فيسع.
جلس امراجع وأغمض عينيه من شدة الآلام التي احتلت جسده المتهالك وبسبب توابع مغامرة التسول التي أقدم عليها. لا يدري كيف ولماذا هاجمته ذكريات أيام الدراسة في النمسا. ها هو في رحلة نهاية الاسبوع مع بعض زملاء الدراسة من جنسيات مختلفة باحدى الغابات يساعدهم في صنع اسياخ الكباب استعدادا لشيّها على نار جمرات الفحم الملتهبة أمام خيمهم المنصوبة الى جوار بعضها. وها هو يتمرغ فوق بساط العشب الاخضر ماسكا بطنه بكلتا يديه للتخفيف من حدة الألم الناتج من كثرة الضحك والجو المرح الذي كان يرافقهم في رحلاتهم. وهنا نجده يصف بلاده ليبيا وجمالها لأصدقائه، والجميع ملتف حول نار المخيم يصغون له باعجاب وتقدير.
فجأة قطع صوت أحد البائعين حبل أفكار امراجع.
البائع: يا أستاذ.. يا أخينا.. قوم بقى شوفلك حته ثانيه تقعد فيها.. ده الصندوق بتاعي ودي الطرابيزه بتاعتي.. قوم بقي.. ايه انت مالك؟ مش سامعني؟ ده انت شكلك مخروم ومضروب بستين نيله.. روح شوفلك داكتور او حاجه تفوقك.
امراجع: هذا صندوقك؟
البائع: ايواه.. قوم بقى يا أخي خلّينا نشوفو مصالحنا..الله؟ ايه البقاحة دي؟
ابتعد امراجع قليلا عن مكان البائع الذي يتخذ من بعض الصناديق الخشبية مسطحا لعرض بضاعته من صابون وفرش للشعر وبعض العطور الرخيصة وأدوات الحلاقة. جلس امراجع فوق صفيحة طلاء فارغة عليها صورة البطريق بجوار حافة الرصيف وبالقرب من صندوق كبير عليه بعض أكياس البهارات والأعشاب المجففة. ولم تمضي عدة ثواني على ركون امراجع لهذا المكان، حتى صاح به البائع مرة أخرى.
البائع: ما تقعدش هناك كمان!
امراجع: وليه؟ انت كنّك؟ مسلّطينك عليا والا كيف؟ والا حضرتك شيخ البلد او العمدة؟
البائع: اللهم طولك يا روح.. ده انا خايف عليك يا ابني.. اصل المكان اللي انت فيه ده، ده بتاع الواد ادوارد.. من نيجيريا او من غانا الباين.. آه.. دي الحته بتاعته وده المحل بتاعو ولو لقاك في مطرحو حيديك بالبونية على قفاك وعلى نافوخك على طول وأنت مش ناقص بهدله.. آديني قلت لك.. ما ليش دعوا بقى.. ده حيبهدلك.. أصل دول ما عندهمش يمه أرحميني..بالمطوي والسكين على طول.. روح شوف لك حته ثانية احسنلك.. ده انت الباين عليك هلكان من مجاميعو.
امراجع: هاضاك مكانك وهاضا مكان النيجيري او الغاني، والليبي وين يقعمز؟ بالله ما تعرفش وين صندوق الليبي؟
البائع: الله! وانا مالي يا أخي.. هي دي مشكلتي؟ ايغور لأي حته بقى.. روح اسال اللجنة بتاعتك بقي.. ده ايه البلاوي اللي بتترمي علينا دي.
التفت البائع الى أحدي السيدات العابرات، وحاول اغرائها بشراء شيئا من بضاعته: ايواه يا اموره ايوا.. ايواه يا قمر.. ايواه يا حاجه تعالي بصي وشوفي الحاجات الحلوه.. مش لازم تشتري ياحاجه.. اتفرجي ببلاش يا حاجه.. اللهم صلي عالنبي.. ايه الوش الحلو ده اللي زي القمر.. فرجيني وافرجك يا عسل.. خش خش يا توفيق من هناك.. ما تسيبهاش تفلت منك.. اوعي تسيبها تروح للواد التونسي.
ولم تستغرق رحلة بحث ممدوح عن الدكتور امراجع طويلا، فلقد وجده بالقرب من محل تشاركية الأمانة يهم بالنهوض تاركا الباعة الأجانب المسيطرين على الشوارع والأرصفة الليبية في حالهم. أبلغ ممدوح الدكتور امراجع بطلب الحاج الطاهر ورفاقه، وطلب منه ان يتبعه الى التشاركية. تردد امراجع في قبول الدعوة بسبب ما سمع منهم في زيارته الاولى لهم، ولكنه في آخر المطاف وبعد الحاح ممدوح عليه، وافق على مضض.
بسبب كل ما جرى لهذا المسكين، ومن جرأ الطعنات التي تلقاها وتدهور حالته الصحية بدنيا ونفسياً، اصبحت افكاره مشتتة وبدأت قدرته على التركيز ضعيفة وتنقصه الرغبة في المضي الى الامام. مشي الدكتور امراجع وراء مرافقه ممدوح مسلوب الارادة ومشتت الافكار، مما جعله ينسى الكيس الأزرق الذي يحتوي على زجاجة ماء، عصير اليوقا وبعض البسكويت الذي اعطاه له العم منصور.
لماذا طلبوا مني العودة لمقابلتهم؟ يريدون استجوابي او التشمت بي من جديد؟ ام هل هذه هي صحوة الضمير الليبي الذي أعرف أنه لايزال حياً، ولن تستطيع اجهزة غسيل الدماغ القمعية الثورية من القضاء عليه.
دخل امراجع الى تشاركية الأمانة من جديد، رحبت شلة التشاركية به، وبعد اعتذار ليبي موجز وسريع من طرف المجموعة الحاضرة، سلموه اربعون دينارا متمنين له التوفيق. وطلبوا من امراجع أن يجلس معهم لبعض الوقت وليشرب معهم كأس شاي ترد له الروح كما قالوا، لكن امراجع شكرهم بصوت متوتر يشوبه الخجل والامتنان.
امراجع: الله يبارك فيكم يا جماعة.. الله ايدوم عليكم الصحة وربي انشاء الله يكثر من امثالكم.. حتعرفوا في يوم من الايام اني ما ضحكتش عليكم واني ولد ناس طيبة ونستاهل جميلكم ومعروفكم وانشاء الله ربي يقدّرني على خدمتكم ورد جميلكم.. الله يفتح عليكم انشاء الله.. وسامحوني في طويسة الشاهي راهي بطني ما تقدرش عليه وبالهنا والشفا.. واسمحولي راهو سواق التاكسي قاعد ايراجي فيا وبنحاول نشري شوية بن للوالدة قبل ما نركب التاكسي.
الحاج سعد: ارزم. هادا واجب يا سي امراجع مش جميل.. الناس لبعضها راهو.
الحاج خليفة: ربنا يسهلّك انشاء الله.. زينه يا ولدي ومربوحه انشاء الله.. الله يحفظك من فروخ الحرام.
فتحي: اللي لا ينامو ولا يخلو من ينام.. بالسلامة يا امراجع ورد بالك من روحك.
امراجع: هيا بالسلامة يا جماعة الخير.. بارك الله فيكم مرة ثانية ورمضان كريم وانشاء الله بعوده.
الحاج الطاهر صاحب التشاركية: استنى يا امراجع دقيقة.. على ذكر القهوة.. آهو خوذ معاك طاقم الفناجين هادا هدية للوالدة..الله يباركلك في الحاجّه وتذكرنا عاد كلما تشرب فنيجين قهوة باهي من ايدين العزوز.
امراجع: ليه عليك يا سي الحاج؟ ما فيش داعي والله.. انا توّا معاي فلوس وتوّا.. كثر خيرك يا عمي الحاج.. وبعد خطرها هادي بطاقتي الشخصية فيها اسمي ورقمها و...
الحاج سعد: ارزم! شني بنكحلو بيها بطاقتك؟ يا ودي خوذ باكو الفلاجين والحق روحك قبلما التاكسيستي يرخي بيك الحبل وتقعد حببي.
امراجع: الله يبارك فيكم.. هيا بالسلامة ياجماعة.. الله يرحم والديكم.. الله يبارك فيكم.
لس من السهل التعامل مع تناقض المشاعر تجاه شخص او موضوع او حدث ما. حوادث تتكرر وأمور جديدة تظهر وتأخذ مجراها في حياة الانسان. بعضاً منها لا نعيره اي اهتمام، وبعضها يهز كياننا بقوة وبدون استئذان. بعض تلك الاشياء والاحداث يعجز حتى الانسان المنطقي والعاقل على تفهمها، وان فهمها فقد لا يستسيغها. هذا جزء بسيط مما كان يدور داخل جمجمة امراجع المزدحمة بالكثير من الأفكار والأسئلة التي تبحث عن اجابة.. مثل سؤال: هل يمكن أن ينسى التاريخ كيف حال الليبيين؟
شتّان بين ما شعر به بعد الزيارة الاولى للتشاركية، وبين ما يشعر به الآن. انشرحت أساريره قليلا وعاوده التفاؤل والايمان بوجود الخير والطيبة والشهامة في هذا البلد وسكانه. ومن فهم شخصية امراجع، سيجد أن السبب الرئيسي وراء "زهوة بال" امراجع هذه المرة، ليس المبلغ المالي البسيط الذي تبرعت به شلة تشاركية الامانة، لكنه الشعور بالفرحة لمعرفة أن سنين القحط والتشريد الفكري والاجتماعي والثقافي وبرامج غسيل الادمغة للجماجم الليبية التي نظّرت لها وفرضتها -بقوة الكلاشنكوف- الادمغة الثورية المتكلسة، لم ولن تتمكن كل تلك البرامج الثورية من الاستيلاء على مساحات الفكر الليبي الأصيل.. وأثبتت الأيام انه لم يعد للثورة ولأبواقها ما تعطيه، والسبب ببساطة يكمن في مقولة "فاقد الشئ لا يعطيه".
قرر امراجع الاسراع في العودة الى موقف سيارات الأجرة، ليطمئن على وجود السيارة التي ستقله الى بنغازي. توقف في طريقه بمحل مطحن كينيا للقهوة (البرازيل سابقاً) وأشتري بعضا من البن المطحون لتوه. وبعد جهد جهيد وصل امراجع لموقف السيارات ليكتشف أن سيارة الأجرة قد غادرت طرابلس بدونه.
امراجع لسائق سيارة أجرة: بعد اذنك يا أخ، التاكسي اللي كانت هنا، انشاء الله غير ما يكونو اسقّدو من غيري وسابوني هنا؟
السائق: آآه.. كرهبة سي مختار.. اسقّدو من بدري.. تلاقيهم حتى قريب يوصلو لتاجوراء.. وانت وين كنت رايح يا بن عمي؟ مختار نشد عليك وقعد يراجي فيك واجد وبعدين توكل واسقّد في حاله وين تعبّت سيارته.. مش انت اللي كنت ناوي تمشي معاهم والا لا؟
امراجع: ايوا ايوا.. لكن صارتلي شوية ظروف هكي وتأخرت شويه.. عليك حاله وخلاص.. وكيف الدباره توّا يا بوصاحب؟
السائق: كل تأخيره وفيها خيره..ع لى العموم خلّيك معاي هنا.. انا اللي عليا الدور لبنغازي.. وانشاء الله تسقّد معانا.. قمعز في السيارة وخلليها على الله.. وعلى فكرة راهو سي مختار السواق اللي توكل لبنغازي ولد ناس وأمين وعطاني حق توصيلتك.
امراجع: الله يبارك فيك وفيه.. الدنيا مازالت بخير.. الحمد لله.. يلا على قولتك، كل تأخيره وفيها خيره.
وفجأة تذكر امراجع انه نسى كيسه الازرق الذي يضم هدية العم منصور له بجوار صناديق الباعة المتجولين، وقرر الذهاب لاحضاره.
امراجع للسائق: وووه عليا.. سامحني يا بو صاحب.. انا نسيت كيس فيه شوية حاجات في جنب هاضاك الكشك.. انطق فيه انجيبه ونجيك.. على رحمة والديك استناني.. اهو المكان قريب من هنا..
السائق: لا حول الله.. والله انا من رأيي اتخليك هنا خير يا راجل.. باهي باهي لكن رد بالك تغيب واجد.. حتى احنا قريب نسقّدو رانا.
امراجع: باهي باهي.. راجعلك بسرعة..انشاء الله.
السائق: لا حول الله.. والله انا من رأيي اتخليك هنا خير يا راجل.. باهي باهي لكن رد بالك تغيب واجد.. حتى احنا قريب نسقّدو رانا.
امراجع: باهي باهي.. راجعلك بسرعة انشاء الله.. ارجاني الله يربّحك.
السائق: راهو هالكرهبه هاضي آخر وحده لبنغازي اليوم.. العرب شاطت فيها نار رمضان حتى قبل الصيام وكل واحد ايريد ايكون مع عويله قبل الموسم.. خف روحك شويه وكل سنة وانت طيب.
امراجع: وانت طيب.. اتعيش يا بوصاحب.
السائق: على اية حال عندك نص ساعة وبعدها والله ما نقدر انراجيك.. وما نقدر نعطيك كلمة.
امراجع: راجعلك بسرعة.. خمسة دقايق بالكثير.. ارجاني الله ايربّحك.
بالرغم من حالته الصحية المزرية التي لاحظ ترديها عابري السبيل كذلك، الا أن امراجع حاول الاسراع باتجاه المكان الذي نسى فيه الكيس الأزرق هدية العم منصور، بالقرب من صناديق ادوارد للبهارات والأعشاب الافريقية المجففة. اقترب امراجع من المكان وحيا البائع الأفريقي الواقف وراء منضدة عرض البضائع، ثم بدأ في السؤال عن كيسه الذي نساه هناك.
امراجع: انا نسيت كيس هنا من قبل شويه.. ايوا ايوا اهوا الكيس هضاك اللي في جنب صندوقك.. هذا هو.. معليش ما تواخذنيش انا دايخ ومريض شويه ونسيته الكيس هنا.. هاته جاي، ترا اعطيني الكيس امتاعي من فضلك.
ادوارد: لا. لا. نو. نو. امسي (يقصد امشي).. انت امسي.
امراجع: كيف؟ تهات الكيس وخلّيني نمشي في حالي الله يهدك.
ادوارد: انا فيه قول لا. انت امسي. قيت لوست.. انت فيه بادين موسكله.
امراجع: انت اللي قيت لوست يا حقير.. انا في بلادي.. الله يعطيك انت مشكله تهد حيلك.. تهات الشكاره هنا يلعن لايام السودا.
ادوارد: سودا؟ انت راسيست.. انت موس (مش) كويس.. اسود وابيض.. انت امسي اهسن.
البائع المصري: استر يا اللي بتستر يارب.. مانا قلتلك يا ابن الحلال.. روح في حالك وسيب الكيس ومش حتندم.
امراجع: اسمع، انا مش ناقص دووه.. اعطيني شكارتي وفكني من مشاكلك.
ادوارد: امسي.. امسي.. انت كريزي.. انت كريزي.
لادوارد كيس امامه تحت المنضدة يشبه الكيس، الذي يبحث عنه امراجع وهو يعرف عن أي كيس يتحدث امراجع.
امراجع يرى كيسا يشبه كيسه وقريبا جدا من المكان الذي استراح به منذ قليل. البائع المتجول ادوارد لا يريد امراجع ان يلمس الكيس، وامراجع لا يريد ان يتنازل عن هدية العم منصور.
حاول امراجع الوصول لمبتغاه بجوار المنضدة، حاملا كيس البن المطحون وصندوقا صغيرا به طاقم الفناجين الذي اهداه له الحاج الطاهر. استمرت المشادة والمناوشة الكلامية بين الاثنين، ثم تحولت الى تشابك بالأيدي. علت أصوات المشاجرة والصياح من كلى الطرفين ومن بعض رفاق ادوارد. تدخل بعض المارة لفك الاشتباك وتهدئة النزاع، لكن امراجع لم يشعر بيد المجرم التي امتدت الى جيبه، لتسرق محفظته وتختطف احلامه بالعودة لبيته.. ولتحرمه من حياته الحقيقية ولو لبعض الوقت من هذا الزمن الشقي.
تعرّف ادوارد من بعيد على شرطيان يرتديان الملابس المدنية، يشقان طريقهما في الزحام باتجاه مركز المشاجرة، ويقتربان منه ومن خصمه.
شرطي: تحوّل انت وهو.. حوّل..يللا.. شني فيه بالزبط؟ شني اللي صار؟ صكّر فمك انت وهو.. اسكت يا ادوارد ما تتكلمش.. تكلم انت.. شني المشكلة؟
امراجع: الحمد لله اللي جيتو.. والله انا كنت امقعمز هنا قبل شويه وكان المكان فاضي ونسيت فيه كيس صغير فيه شيشة اميّه وباشكوط والنيجيري هذا ما يبيش يردهوم ليا.
الشرطي: هذا مش نيجيري هذا غاني.. كل هالعركه على خاطر باكو بشكوتي؟ زنازه كبيره والميت فار.. وين الكيس اللي تحكي عليه؟
وأعطى ادوارد كيسا آخراً للشرطي غير الكيس الذي كان يبحث عنه امراجع.
الشرطي: هادي شكارتك اللي اتدوّر عليها والا لا؟
امراجع: ايوا.. ايوا يا أفندي.. الله يبارك فيك هي هادي.. فيها شيشة اميّه وشيشة يوقا وباكو..
الشرطي: انت متأكد؟ بالك غلطان؟
امراجع: نعم.. ايوا متأكد.
الشرطي: خيرك هكي متلخبط ومش على بعضك؟ شني شارب؟ ترا وين بطاقتك؟ شني اسمك.. طلّع طلّع البطاقة.
امراجع: انا دكتور.. انا الدكتور امراجع.. بطاقتي؟ آآه ارجا شويه بس.. حااااضر.. اهى موجوده هنا.. ارجاني شويه على رحمة شيّابك.. يا نهاري لاسواد.. مش لاقيها البطاقه.. ولا لاقي اوراقي ولا التزدان.. حييه عليا حيه.. والتاكسيستي حيرخيني.. سرقو التزدان فروخ الحرام.. امتى تتعلم يا امراجع؟
الشرطي: وما عندكش اوراق! متأكد ان هادي شكارتك؟ انت دوتك مش مزبوطه.
امراجع: والله يا افندي معاد متأكد من حاجه.. سرقوني فروخ الحرام.. ترا افتحها الشكاره.. ورّيني شني فيها وبعدين انقولك.. انا شكارتي فيها اميّه وباشكوط ويوقا.
الشرطي: بعدين تقوللي؟ توّا يبانلك.
وفتح الشرطي الكيس وأخرج منه زجاجة تفوح منها رائحة الكحول المصنّع محليا وحوالي نصف كيلو من مخدر "الحشيش" وأشياء أخرى. كاد امراجع أن يفقد وعيه من الدهشة ووقع الصدمة التي تلقاها فور رؤيته لمحتويات الكيس الذي سلّمه ادوارد للشرطي. الآن فقط فهم امراجع لماذا استمات ادوارد في الدفاع عن ذلك الكيس. الآن فقط فهم لماذا نصحه البائع المصري بالابتعاد عن مكان هذا البائع الأفريقي. ادوارد يتاجر في الممنوعات!
امراجع: لا لا يا أفندي. هذا مش كيسي.. انا دخيلتك.. هاضا متاع هالنيجيري المجرم.. أنا كيسي كان هنا جنب الصندوق وفيه باشكوط ويوقا و.. حتى انشد الأخ المصري اللي هنا.
ألقى امراجع نظرة باتجاه مكان البائع المصري فوجده شاغرا. وحين ألقى امراجع نظرة باتجاه ادوارد، وجده يشرب من زجاجة الماء التي احضرها العم منصور لمراجع وبجوار قدميه على الأرض توجد علبة بسكويت وزجاجة عصير "يوقا" فارغتين.
امراجع: ولد الحرام النيجيري شرب اليوقا.. يا افندي شوف شوف.
ادوارد: انت فيه قول هادا كيس امتاا انت.. خود.. خود كيس، سوري هادا موس (مش) كيس انا ادوارد.. هادا فيه هرام .. انت فيه تاكيلا في كيس.. انت موس موسلمان كويس.
الشرطي موجهاً كلامه الى امراجع: اسمع يا ولد الحرام يا صايع، انت من انت؟ من أمتى وانت تتاجر في الحرام؟ عيب عليك يا حقير.
وبدأ الشرطيان في صفع امراجع.
الشرطي: لعنة الله عليك يا حقير.. خزيه.. تى رمضان مازال عليه ثلاثة ايام بس يا وسخ، وانت قاعد تبيع في الحشيش والتاكيلا في السوق يا حقير. ما تتحشمش على وجهك؟ أكيد عندك سوابق يا فرخ الحرام.. الباين عليك جديد في السوق.. طحت وين تستريح.. ما تتحشمش يا خنزير..خزيه عليك يا كلب.
امراجع: لا لا أنا دكتور.. سوابق؟ لا لا. تاكيلا؟ لا معنديش سوابق..حشيش؟ نهار اسود مش فايت.. لا لا ما عنديش سوابق.. اوراقي ضاعت وحتى فلوسي اللي شاحتهن اليوم راحن.. انا طالع من الحبس اليوم.. خلّيني انفهّمك يا افندي.. أنا مش مجرم يا عالم. راني انظلمت فوق اللزوم. منك لله يا ظالم منك لله. اعطوني فرصة يا ناس لا لا..
الشرطي: اسكت! صكّر خرارتك يا وسخ. كيف؟ كيف؟ تكيف دكتور وشحات وبدون اوراق وماعندكش سوابق لكن طالع من الحبس اليوم وتبيع في المخدرات.. هيا هيا سقّدنا.. يللا معانا عالمركز.. انت الباين عليك دايخ ومودّر بوكل.. اتفووه عليك يا ساقط.
دفع الشرطي امراجع امامه وأهدى ظهره ضربة قوية اطارت كيس البن المطحون وصندوق طاقم الفناجين، اللذين كان امراجع يضمهما الى صدره طوال الوقت. تناثرت أشلاء الفناجين وغبار البن وسط الزحام، وفقد امراجع السيطرة على قواه وما يجري حوله، واستسلم لواقع حزين يرثى له. اهتزت الأرض تحت اقدام امراجع، فسقط المسكين متهالكا لترتطم مؤخرة رأسه بحافة الرصيف أمام صندوق بضاعة ادوارد.
للحظات العمر في حياة الانسان معاني، ولمسار قطرات دماء بعض البشر لا يوجد العنوان مكتوبا على أسفلت اسود، ولا على ذرات رمال متعطشة للغد الأفضل، بل في وريد الوطن. مرت محطات كثيرة من أحداث حياة ومعاناة امراجع المسجلة في دفتر يحتضنه الشيخ العجوز الملقب بالتاريخ، مرت كشريط مصور في مخيلته وفي سرعة هائلة قبل أن يسقط مغشياً عليه ويدخل عالم الغيبوبة.
بجوار رأس امراجع النازف لدماء ليبية بريئة على الرصيف، تابعت قطعة من فنجان مكسور اهتزازها البطئ في حزن. بأسفل تلك القطعة من الفنجان المكسور ظهر ختم المصنع معلنا "صناعة ليبية".
وفي غرفة مستشفى ليبي ردئ جدا، قالت طبيبة بلغارية ان المريض دخل عالم الغيبوبة بسبب الادمان على ممنوعات وسؤ تغذية، وسجلت القضية ضد مجهول!
من سرق محفظة امراجع، بما تحمله تلك المحفظة من بطاقة احزان و "اوراق الجيش" وصدقة تبرع بها الحاج خليفة وشلته، هذا السارق لايزال يذرع شوارع مدينتنا.. يشرب القهوة في مقاهي حوارينا.. ويصلي في مساجدنا.. ويشاركنا الطعام بدون خجل وفي سلام.
من سرق فرحة العيد وأجمل سنين هذا الليبي، من أغرق عيون الليبيات بالدموع وأثقل أكتاف الليبيون بالهموم.. من زرع الحيرة والمذلة في عيون اخوة امراجع، لا يريد أن يتذكر ما حدث. أحداث كثيرة ستقضي مضاجعه.
ويا من تريد زيارة مريضا مجهول الهوية.. فكره محظور ورزقه مجنّب ويعيش في ظلمة الغيبوبة، خذ معك حفنة من تراب ليبي طاهر، وقربها من أنف هذا المغيّب المنسي باحدى الغرف الباردة بمستشفي ليبي متآكل الجدران والعقل لم تفلح الهتافات الثورية في تدفئة أركانه. فهذا الانجاز الثوري "المستشفي" يحتاج لدخول غرفة الطوارئ قبل جلسات مؤتمر الشعب العام القادمة.. وقبل أن يخرج علينا الثوريون برئيس جديد للوزراء يهمه لمعان حذائه ونجاح وزير خارجيته في تلميع صورة "القائد" أكثر من اهتمامه بالسؤال عن ليبي مغيّب. قم بتهريب حفنة من تراب ليبي لهذا الليبي وقربها من أنفه، فلربما تساعده في صحوته من غفوته وتلغي شهادة وفاته التي أصدرتها طبيبة بلغارية عيّنها ليبي ثوري.
لا داعي للتوتر. لاداعي للانفعال. لن تجدوا ازدحاما حول سرير هذا الجندي المجهول.
لدينا التراب ولكن، هل نملك الوقت؟
مواضيع مماثلة
» وفاة الشيخ الدكتور عبد الرحمان الحفيان
» رد الدكتور نور الدين النقشبندي على رد الدكتور عبد الحكيم السعدي بتاريخ 21-2-2013
» تعزية فى وفاة ضحايا الطائرة المنكوبة
» وفاة الاستاذ الهادي مسعود البرشني
» وفاة الشخ مصطفى عبدالسلام التريكى {ان لله وان اليه راجعون}
» رد الدكتور نور الدين النقشبندي على رد الدكتور عبد الحكيم السعدي بتاريخ 21-2-2013
» تعزية فى وفاة ضحايا الطائرة المنكوبة
» وفاة الاستاذ الهادي مسعود البرشني
» وفاة الشخ مصطفى عبدالسلام التريكى {ان لله وان اليه راجعون}
منتديات الرياينه - الجبل الغربي - ليبيا تستقبلكم بكل مودة فمرحبا بكم :: **المنتــــــــــــديات الادبية :: **** منتدى القصص والروايات
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى